ينام الثعلب وقد أغمض عينا، بينما العين الأخرى مفتوحة، تماما كما ينام المجلس العسكرى، ماهر ويقظ فى تتبع ما يريد أن يراه، ولكنه يغمض عينيه عن أشياء كثيرة حتى تتفاقم وتتدهور وتصبح مشكلة مستعصية، فهو يرصد كل من ينتقد أداءه، بينما لا يرى عاقبة الشقاق السياسى التى صنعتها قراراته، ولا يرى كيف يدفعنا وجوده إلى حافة الانهيار الاقتصادى، لأن هذا جزء من سياسة العين المغمضة، والأمثلة على ذلك كثيرة، ولكنى سأختار أكثرها تفاهة، ففى أسبوع واحد قبضت الشرطة العسكرية على شاب حاول أن يكتب على الحائط شعارات ضد استمرار الحكم العسكرى، ولأنه قد رصدته العين المفتوحة على الفور، فتم القبض عليه وتحويله إلى المحاكمة بتهمة إتلاف الممتلكات العامة، وبعدها بأيام قليلة، تم إلصاق صور فى العديد من ميادين مصر، كلها للمشير طنطاوى بحلته العسكرية الزاهية، وهى تحثنا على التمسك به كمطلب شعبى من أجل الاستقرار، كأنه المخلص فى خضم هذه الفوضى، وقد قام بإلصاقها عشرات الأشخاص، ولم ترهم العين المغمضة، ولم يتم القبض على فرد واحد، ربما لأن ما فعلوه لا يشوه الممتلكات العامة بقدر ما يزينها ويزين المجلس كله، فها هو رأى شعبى معجب بما قدموه لمصر من استقرار ويحثهم على الاستمرار بالوتيرة ذاتها. وكالعادة لا يقدم أصحاب الشأن أنفسهم بصراحة ووضوح، ولكن ينوب عنهم ائتلاف شعبى ما، يقسم أصحابه أنهم يؤمنون بالفكرة، وليس هناك من يدفعهم أو يدفع لهم، ولكن ذلك على نفقتهم الخاصة، وهم يقتطعون من قوتهم وقوت أولادهم من أجل حب الشخص الذى هو تجسيد للوطن، كانت هذه هى الكلمات بحذافيرها التى كانت تقال من لجنة شعبية مماثلة كانت تسعى خلف ترشيح جمال مبارك، ربما يكون أفرادها هم أنفسهم، لأن أسلوبهم المسرحى لم يتغير، ولا اعتراض لنا على شخصية المشير، فهو كفء ومستقر كما يبدو من طريقته فى الحكم، لولا أننا أخذنا كفايتنا من حكم العسكر.فى أثناء زيارتى القصيرة إلى المكسيك، كان يلح على سؤال حول وضعها الحرج، فهى أكثر الجيران التصاقا بالولاياتالمتحدةالأمريكية، تمتد الحدود بينهما إلى أكثر من ألف كيلومتر، وهى توازيها فى الحجم، ولا تقل عنها فى وفرة الإمكانيات، بترول ومناجم تحتوى على نصف فضة العالم ومعادن، ثلاثة من الأنهار الضخمة ومساقط جبارة للمياه، وأراض خصبة، تمتاز بجوها الاستوائى الذى يجعلها منتجة طوال العام، أحلى كاكاو، أفضل بن، ودخان عالى الجودة من أجل المزاج، خضراوات وفاكهة استوائية متنوعة، وفوق ذلك كله هناك شعب ذكى وعاشق للحياة، فلماذا تقدمت الولاياتالمتحدة بتلك الدرجة وبقيت المكسيك على تخلفها ومشكلاتها، لماذا تحولت الأولى لأعظم قوة اقتصادية فى العالم، بينما ظلت المكسيك تقف دائما على حافة الإفلاس، وحتى فى الحروب التى دارت بينهما، ثلاث حروب كبرى، انتصرت فيها الولاياتالمتحدة، واستولت على ثلث أراضى المكسيك، تاريخ كل بلد منهما يقدم لنا الإجابة، فالولاياتالمتحدة منذ أن أعلنت استقلالها من تحت وطأة التاج البريطانى فى عام 1783 بعد حرب دامت سبع سنوات واشترت لويزيانا من فرنسا، واستولت على فلوريدا من إسبانيا، وضمت تكساس من المكسيك، أعلنت دستورها الأول والأخير عام 1788، تراجع العسكر بعيدا عن صراعات الحكم، وتولت السلطة المدنية زمام الأمور، وجعلت كل شىء يتم بالانتخاب الحر المباشر، من أول منصب رئيس الجمهورية، وحتى مجلس الآباء فى أصغر مدرسة، لم يحدث انقلاب، ولم يتدخل العسكر فى السلطة، ولم يحكمها سوى عسكرى واحد هو آيزنهاور فى الخمسينيات، وكان بطلا للحرب وجاء أيضا بالانتخاب، وفى ظرف 150 عاما فقط، تحول هذا الكيان المفكك الأوصال إلى أقوى دولة فى العالم، ولكن مسار المكسيك كان مناقضا، فقد نالت استقلالها عن إسبانيا متأخرة بعض الشىء، فى عام 1910 بعد حرب دامت 11 عاما، وفور إعلان الاستقلال أمسك أحد الجنرالات بناصية الحكم وأعلن نفسه إمبراطورا، وسرعان ما تحول إلى ديكتاتور، ولم يلبث فى الحكم إلا مدة قصيرة حتى ثار عليه جنرال آخر، وهكذا وقعت المكسيك فريسة لأطماع العسكر الذين أدخلوها فى حروب أهلية لا تنتهى، وقد جعلها هذا تعلن إفلاسها أكثر من مرة، واستدعى ذلك التدخل الأجنبى من جديد، فقامت فرنسا بغزوها، ونصبت عليها إمبراطورا قادما من النمسا، وظلت الصراعات مشتعلة حتى ثورتها الأخيرة فى عام 1914، قادها إيمليونا زاباتا الذى قام بدوره مارلون براندو فى الفيلم الشهير «فيفا زاباتا»، ولم يصبح لها دستور ثابت إلا فى عام 1917 أى بعد إقرار دستور الولاياتالمتحدة ب129 عاما كاملة، أكثر من قرن وربع القرن من التاريخ، لم يكف العسكر فيها عن الانقلابات والتناحر، وكلما رحل ديكتاتور خلفه آخر. دفعت المكسيك ثمن هذا التاريخ الدامى غاليا وما زالت تدفع، وهى تقدم لنا تجربة مريرة على تاريخ حكم العسكر عندما يستطيل، يبدأ كل عهد من العهود بآمال عظيمة فى التقدم والاستقرار، ثم سرعان ما يتحول الجنرال، بدافع من نزعته العسكرية إلى ديكتاتور أوحد لا يسمع سوى صوت نفسه، ولم يعد هذا النموذج مقتصرا على المكسيك فقط، ولكنه أصبح نسخة مكررة فى كل دول أمريكا اللاتينية على وجه الخصوص، وفى العالم الثالث بشكل عام، حتى أصبح الحكم العسكرى سمة أساسية من سمات التخلف، ولم يكن الفيلسوف الإغريقى أفلاطون بعيدا عن الحقيقة فى كتابه الشهير «جمهورية أفلاطون» عندما شبه الدولة بجسد الإنسان، لذلك وضع الفلاسفة فى قمتها لأنهم يمثلون العقل، بينما أبعد المحاربين الذين يمثلون العضلات، فلا يمكن للقوة وحدها أن تتحكم فى كامل جسد الدولة. ويبدو أن عشاق حكم العسكر لا يدرون أننا عشنا فى ظله ستين عاما كاملة، وتقلبنا بين ثلاثة رؤساء، مختلفين فى الطباع والمشارب ومتفقين فى نزعتهم الفردية وتمسكهم بالحكم المطلق، أولهما كان جمال عبد الناصر، أقرب هؤلاء القادة إلى قلب فقراء هذا الوطن، وواحد من البناة العظام لمصر الحديثة، ولكن جذوره العسكرية أوقعته فى أخطاء مروعة، فلم يؤمن بالشعب المصرى بقدر ما آمن بقدرته الفردية ورغبته فى أن يكون الزعيم الأوحد، ولم تتح الفرصة لنا أن نتخذ بأنفسنا أى قرار، وبث فينا الرعب فتحولنا إلى شعب طائع، نؤمن به، ونؤمن بأى حاكم حتى ولو كان معدوم الإمكانية فاقدا لكل مؤهلات القيادة، وكانت النتيجة أن مصر تلقت فى عهده أكبر هزيمة مروعة فى تاريخها، هزيمة يونيو 67، التى ما زلنا نعانى من آثارها حتى الآن، ولم ينس عبد الناصر قبل أن يموت أن يورثنا لعسكرى آخر هو السادات الذى أكمل مسيرته فى تجاهل الإرادة المصرية، فساقنا جميعا إلى صلح غير متكافئ مع إسرائيل، وفتح مصر على مصراعيها أمام انفتاح اقتصادى جاءت معه جيوش من الفساد، استوطنت مصر ونشرت مخالبها فى كل مكان، ولم ينس هو أيضا أن يورثنا لعسكرى ثالث هو حسنى مبارك، الذى فعل بنا على مدى ثلاثين عاما ما لم يفعله أى ديكتاتور فى أمريكا اللاتينية.لقد جاءت ثورة 25 يناير بفرصة نادرة حتى نوقف مسلسل التوريث اللعين، جاءت لأن الشعب المصرى أراد أن يتحكم فى مصيره أخيرا، بعيدا عن حكم العسكر الذين أوقفوه على حافة الانهيار، فلماذا يصر البعض على استمراره، لماذا يوجد بيننا بعض المرضى الذين يريدون تغذية أطماع العسكر وإثارة شهيتهم التى لم يفقدوها على مدى 60 عاما، أما آن لنا أن نوقفهم وأن ننقذ أنفسنا من قبضتهم؟