قال رجل «أنا كذاب ولا أقول الصدق أبدا». ترى هل هو صادق فى هذه العبارة أم كاذب؟ هذه الحالة تسمى «التناقض المنطقى»، فلو كان صادقا فى تلك العبارة فيعنى ذلك أنه حقا كذاب، ومن ثم كيف تصدق عبارته؟ ولو كان كاذبا فى عبارته فيعنى ذلك أنه شخص صادق فكيف يقول عن نفسه كاذبا؟ هل دارت رأسك وأنت صائم؟ سامحنى، الغرض أن أقول لك لا تصدق، ولا تكذب، كل ما تسمع مهما بدا لامعا أو عاطفيا، أما إذا صدقت أو كذبت، فاحذر من هؤلاء الذين لا يتوقفون عن صنع التناقض المنطقى، التناقض ليس حكرا على ألعاب المنطق والمسلمات الإغريقية، إنه فى كل مكان حولك. هل سمعت من يسألك: لو خيروك بين وطنك ودينك فأيهما تختار؟ تسمع السؤال ويؤلمك الاختيار، وتشعر أنك تريد تحديد «هويتك» أهى مصرية أم إسلامية؟ ثم تتذكر أن ذلك مجرد حالة تناقض واضحة، فلا يوجد إنسان بلا وطن ولو كان محتلا، ولا يوجد إنسان بلا عقيدة، ولو كانت مجرد فكرة. لو قابلت رجلا قادما من المريخ فإن وطنه المريخ، ولو رأيت رجلا يكلم البقرة فإن عقيدته الهندوسية، الحالة التى يختار فيها الإنسان بين الوطن والعقيدة هى حالة خرافية، تناقض منطقى، والتناقض المنطقى لا يمكن الإجابة عنه. إذن، لماذا يضعك البعض فى هذا الموقف؟ سأجيبك ولكن لنبدأ من البداية: تخيل أنك ضيعت بطاقتك الشخصية؟ هل يعنى ذلك أنك غير موجود؟ تخيل أن والديك، بعد عمر طويل، رحلا عن الدنيا، هل تصبح عندها بلا أصل؟ تخيل أن شخصا ملحدا وصل إلى حكم مصر، مش عارف إزاى، ثم أصدر قرارا ديكتاتوريا رقم كذا بإلغاء هوية مصر الإسلامية، هل سنصحو ساعتها من النوم فنكتشف أننا لم نعد مسلمين؟ من المضحك أن جمعة «الهوية» كانت الوحيدة التى رفعت أعلاما غير مصرية فى ميدان التحرير، ولكن ذلك ليس موضوعنا، موضوعنا هو الذين يخترعون أعداء وهميين، ومشكلات غير حقيقية، ويطلبون صوتك فى الانتخابات فقط بحجة أنهم المدافعون عن «الهوية الإسلامية» لمصر، بل يتجرأ أحدهم فيقول فى مؤتمر حاشد «لولا الإخوان لكان رحم الله الإسلام فى هذا البلد»، فتتساءل إن كان قرأ قول الله تعالى «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون»، وذلك قبل قرون طويلة من مولد صبحى صالح وحسن البنا وعبد المنعم الشحات، لكن البعض يتصور أن الإسلام والهوية الإسلامية هما رهن بنتيجة الانتخابات، أو بتعديلات دستورية، كأن الإسلام لم يكن موجودا قبل دستور 23! ثم اسمح لى بالمزيد من الافتراضات: لنتخيل أنك لم تعد تطيق هذا البلد أو ناسه أو «هويته»، وأنك سافرت إلى ألمانيا، حصلت على الجنسية الألمانية ومزقت الجواز المصرى وتعلمت اللغة الألمانية، تزوجت امرأة ألمانية وأنجبت أطفالا زرق العيون، هل يجعلك ذلك ألمانيّا؟ أعتقد أنك تعرف الإجابة، تعرف أنك ستظل تفكر بالعربية وتشعر بالمصرية وتنفعل وتشتم بالشبراوية. «الهوية» ليست قرارا من حاكم أو اختيار من مواطن، ليست مادة فى قانون ولا برنامجا حزبيا، الهوية تراكم آلاف السنين من التاريخ المشترك لجماعة تسكن منطقة من الأرض، تتشارك اللغة والعادات والتقاليد والأديان والأفراح والمصائب، هذا ما يجعل التشابه بين المسلم المصرى والمسيحى المصرى أكبر منه بين المسلم المصرى والإندونيسى، أو المسيحى المصرى والسويسرى، الهوية لا تشترط التخصص الدينى أو التعليم الجامعى، فالفلاح الأمّى يعرف «العيب» بالضبط كما يعرفه الطبيب المرموق، هويتنا هى الوطن والدين والتاريخ معا، لا يجوز ولا يعقل وضع أحد هذه العناصر فى مواجهة الآخر، كان الإيمان بالإسلام فى زمن الرسالة يفصل بين الأخ وأخيه والمرأة وزوجها، لكنه لم يفصل أبدا بين المرء ووطنه، واقرأ وتأمل النظرة الحزينة التى ألقاها سيد الخلق نحو مكة وهو يهجرها مجبرا مضطرا، ثم فرحته بلقائها بعد الفتح، أما المصرى منذ عهد الفراعنة فإن هويته تميزها ثلاث صفات: خفة الظل، والصبر، والتدين. فى العهد القديم ملأ مصر بالمعابد والمسلات، ثم ملأها بالكنائس والأديرة ثم بالمساجد والزوايا، عمل حساب الموت والحساب، وصبر على المكاره، واحترم المرأة منذ حتشبسوت حتى العهد الذى سماها فيه «الحكومة»، واخترع النكتة بالرسوم الهزلية على جدران المعابد وصولا إلى «ارحل بقى إيدى وجعتنى»، فإذا قابلت شخصا يظن أن التدين هو التجهم والوجه العابس والزجر ومعاملة المرأة كعورة «حتى إنهم فى مؤتمر الأخوات لم يجلسوا أختا واحدة على المنصة!»، فاعلم أن ذلك مصيره إلى الزوال، لأنه ليس من «هويتنا»، وانتخب إن شئت الإخوان أو السلفيين ولكن.. اسألهم عن برامجهم فى الاقتصاد والاجتماع وحلول البطالة، أما لو قال لك أحدهم: انتخبنى لأننى من سيحمى الهوية، فقل له: «العب غيرها» يا متناقض!