كان بالنسبة لي مجرد وجه مألوف من الوجوه الموجودة دوما في ميدان التحرير، كنت أعرفه على أنه «عرضحالجي الثورة»، رجل يقارب عمره الخامسة والستين، نحيف، أسمر، جميل، وجهه طيب وغاضب وحزين وقوي، بدأت علاقتي بهذا الوجه على أنه أحد وجوه هؤلاء المصريين الذين أعادوا لي اكتشاف حبي لهم وللبلد، ملامحه كافية بتصديق قضيته دون أن أعرفها أو حتى أن أعرف سبب وجوده واعتصامه غير المنقطع في الميدان، فقط أدركت أن هذا الرجل هو واحد من أصحاب البلد الذين يحاولون استعادته، الأوراق واللوحات المكتوبة بخط يده وتوثيقه للأحداث وطرحه لرأيه بمنتهى الصراحة فيما يحدث سواء من قرارات مجلس وزراء أو بيانات المجلس العسكري، كلامه عن مصر وتحريرها، مطالبته بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية لكل أهل مصر، كل هذه اللوحات التي تفترش الشارع الذي يسكن رصيفه المقابل مكتوبة بلغته الأدبية البسيطة التي تكشف عن شخص متعلم وصاحب رؤية وطنية.. كل هذا ولم أجرب أن أسأله يوما خلال الثورة أو حتى بعدها عندما شاهدته في «جمعات إنقاذ الثورة المتتالية أو جمعة لا للتعديلات الدستورية».. لماذا أنت هنا في ميدان التحرير باق؟ ربما لأنني كنت أعتبر أن الإجابة بديهية، حاله كحال كثيرين ممن يؤمنون ويوقنون أنهم هنا باقون لحين استعادة البلد وتحقيق مطالب الثورة، حاله كحال من يتحدث باسم الثائرين والصامتين والخائفين والمترددين والغاضبين.. لم تكن الإجابات تشغلني... بالنسبة لي هو أحد هؤلاء الرائعين الثائرين الثابتين من أهلك يا مصر. في الأسبوع الماضي.. فقط في يوم مليونية الثلاثاء التي أذيع فيها بيان «الإصبع العسكري» الشهير الذي توعد وهدد بلهجة مسرحية غير متقنة، قابلت هذا الرجل في الميدان، وقفت أمام لوحاته أقرؤها وأنظر إليه وفجأة لمحت في وجهه -وللمرة الأولى- شبح ابتسامة، وأشار إليّ في حماس بقبضة يده، وبشكل تلقائي أجبت حماسه بنفس الطريقة، بقبضة يدي وابتسمت له. ابتسامته كانت دعوة كريمة للحديث معه، جلسنا معا على رصيف ساخن في عز سخونة الظهيرة، لم أكن في حاجة لكي أسأله عن اسمه، فكل جيرانه في خيام الميدان ينادونه «أبو مينا»!! مينا.. بطل الحوار الذي أخذنا لمدة ساعتين، مينا (28 سنة) الابن الثالث في ترتيب أولاده الأربعة، مينا.. العريس الجديد الذي ينتظر وليده الأول بعد 35 يوما، مينا الذي كلما تحدث عنه أبو مينا وعن مهارته وعبقريته المشهود بها في مجال الخراطة ألحق كلامه بجملة «باسم الصليب عليه إيده تتلف في حرير». حديث عم مجدي إسكندر عن ابنه مينا يدل على أنه المقرب له، أو هكذا تصورت. كلما جاء شاب واقترب من أبو مينا، اعتقدت أنه مينا. سألته ما الذي دفعك يا عم مجدي للاعتصام والبقاء في الميدان منذ أيام الثورة وحتى يومنا هذا؟ أجابني عم مجدي من حيث يعلم الآخرون والمحيطون به في الميدان قصته إلا أنا!! قال لي: «أنا قررت أموت هنا في الميدان وأدفن جنب ابني». لوهلة لم أفهم وحاولت ربط كل ما قاله الرجل عن مينا لفهم الموقف. مينا الذي يتحدث عنه عم مجدي طوال حواره بصيغة الواقع والحالي والمضارع لا بصيغة الماضي، مات مينا برصاص 9 ملي من مسدس ميري أمام قسم الشرابية يوم جمعة الغضب 28 يناير. منذ أن رأى عم مجدي ابنه مينا في المشرحة ثم أوصله إلى المدفن، وعندما خرج الأب من القبر تاركا ابنه وحيدا فيه، هي نفس اللحظة التي أصبح الميدان هو ملاذه الأخير للعدل ولحق ابنه، هذه اللحظة التي أقسم فيها أنه لن يعود إلى بيته وأسرته وإلى حفيده المنتظر، الذي سيسميه مينا أيضا إلا بعد أن يأخذ حق دم ابنه الشهيد، ومن يومها وهو باق في الميدان. أقسم أبو مينا، مثلما أقسم آباء وأمهات شهداء كثيرون، يا إما يجيبوا لي حق ابني، يا أجيب حقه بإيدي يا أموت هنا وأدفن جنبه. قلت له بجملة غير محسوبة: إن شاء الله حقك وحق ابنك وكل اللي زيه هيرجع؟ بتساؤل وخيبة أمل لمحتها في صوته وعينيه اللتين أغلقهما وهزة رأسه المثقلة: إزاي بس يا بنتي.. ما خلاص... دول بيطلعوا اللي قتلوا ولادنا من الخدمة.. يعني بيحموهم!! قلت: اوعي تحبط يا أبو مينا.. البلد مراهنة عليك أنت واللي زيك. قال: أنت عاملة زي ناس كتير قلبها مش مطاوعها تصدق إنه خلاص... كأن مافيش حاجة حصلت ولا شيء اتغير. بكى أبو مينا هذه المرة بدموع وبصوت مسموع: أنا عاوز أرقد جنب ابني. لو مينا كان بيموت عشان البلد يحكمها الظلم تاني، يبقي الموت أهون لنا كلنا.