ما الذى يجمع بين خطب الشيخ عبد الحميد كشك (رحمه الله) وخطب أدولف هتلر، وحفلات الديسكو الصاخبة؟ كلها متعة لمن يعيش أجواءها، ويتفاعل معها. ذلك أنها قادرة على حث الجسم على إفراز الأدرينالين. والأدرينالين يرد الإنسان إلى حال برية، كتلك التى تشعر بها الحيوانات حارة الدم وقت الخطر، ووقت الخوف، وتحت الضغط، وفى ذروة النشوة. معظم عضلات الإنسان -على سبيل المثال- تنقبض فى تلك الحال، حتى تلك العضلات الدقيقة التى تحيط بمنابت الشعر، ويرتجف الجسم ارتجافة نسميها فى اللغة العربية قشعريرة. مريدو الشيخ كشك وغيره اعتادوا أن يأتوا إلى القاهرة خصيصا من أجله ليستمعوا إلى هذا الخليط من الوعظ والتسلية وإطلاق النكات. كلمة الله تقال بصوته الضخم، عالية مرة وهادئة مرة، الصلوات والتسليمات على النبى الأمى الكريم، القصص الإعجازية من أخبار الأمم، بنهاياتها الدرامية التى يخضع فيها الأسد لقوة الإيمان، أو تنكسر قيود الحديد بعزمه. ويرتجفون ويقشعرون. كثير من هؤلاء المريدين لم يكونوا يصلون ولا يصومون، بل يذهبون إلى مسجد الملك كما يذهب المرء إلى مزار سياحى. يخشعون فى حضرة الخطيب، وحضرة الأدرينالين، ثم لا يلبث عزمهم أن يفتر حين يهبط مستوى الأدرينالين، وتعود ريما إلى عادتها القديمة، لكنها تكتسب أيضا عادة جديدة تصير بالنسبة إليها كالإدمان، عادة حضور الخطب والانتشاء بهذه القشعريرات الصغيرة، دون تفكير فى مدى استقامة القصص الذى يقال مع العقل السليم. الشيخ كشك لم يكن له هدف سياسى محدد. أما غيره من الزعماء السياسيين «الكاريزميين» فقد بنوا على هذه القشعريرة كثيرا. فالإنسان حين يعلو الأدرينالين يكون متيقظا ومتوثبا، وفى نفس الوقت متوجسا وقلقا، ومحتاجا إلى العون، ويبحث عن الأمان. وهؤلاء السياسيون الكاريزميون -كهتلر قديما وأكثر من هتلر صغير حديثا- يستغلون هذه الحال ويطرقون على الحديد وهو ساخن. حين تسرى القشعريرة فى الجمهور يسارعون بتقديم وصفتهم السحرية، طوقهم للنجاة من «الأزمة»، وملاذ آمن من الخوف. ومرة بعد مرة يرتبط هذا بذاك ارتباطا شرطيا، يرتبط الأدرينالين والخوف والترقب بوصفة الإحساس بالأمان التى اقترحها الزعيم. الأدرينالين يستدعى الوصفة (طريق الأمان)، والوصفة تستدعى الأدرينالين (النشوة اللحظية). وهذا الارتباط الشرطى لا يحكمه المنطق، إلا بقدر ما يحكم المنطق بين صوت الجرس وسيلان لعاب كلب بافلوف. الجمهور لن يبحث بعد الآن فى مدى صحة ما يقوله الزعيم فى لحظات القشعريرة الجماعية، بل يتقبله على عواهله. والزعيم يجد نفسه مطلق العنان لكى يقول كلاما تافها لا يستقيم مع العقل السليم. تابع من الآن فصاعدا الأسباب التى يسوقها أصدقاؤك وأقاربك لإحساسهم بقشعريرة (شعورية)، وستجد أنها إما مرتبطة بما يقدسونه منذ الطفولة -الدين أو الوطن- أو بحادثة مشحونة عاطفية، أو حتى أحداث مأساوية أثّرت فيهم بشدة. وتلك هى جوهر أحاديث الزعماء (والأتباع) الشعبويين. أما على الجانب الآخر، فلا نكاد نسمع فى حياتنا أحدا يقول إن جسده «اقشعر» وهو يستمع إلى شرح لنظرية علمية معينة. فالقشعريرة حال شعورية لا ذهنية، أوتوماتيكية وليست إرادية. وإدمانها يعنى مزيدا ومزيدا منها، على حساب ما سواها. إذا جمعت القشعريرة وما يرتبط بها فى جانب لوجدته كالتالى: خطابة، عاطفة، استدعاء من الماضى، تفكير سريع لكنه وقتى وآنى ولا يعبأ بالعواقب البعيدة. وهو المعاكس تماما لسمات المجتمعات المتحضرة: كتابة، عقلانية، نظر إلى المستقبل، تفكير متمهل يأخذ فى اعتباره العواقب البعيدة أيضا. ومن هنا تزداد أهمية القشعريرة فى مجتمعات الخطابة كثيرا عنها فى مجتمعات الكتابة. إذ تحتاج الأخيرة إلى ذهن صاف يركز فى التفكير فى ما يريد، بهدوء، ودون عجلة. ثم يعرض ما فكر فيه على آخرين، يعلم أنهم أيضا يستطيعون أن يجلسوا ويفكروا فيه بلا عجلة، لأنه باق ومتاح للاختبار، وتفاصيله لا تختفى تماما فى الزحام. وفعل الكتابة بعد فعل الكتابة تراكم. والتراكم هو الأب الوحيد للحضارة. وهذا موضوع لحديث قريبا.