«قلت لوكيل النيابة.. أيوه يا بيه أنا سرقت العيش الفينو والعشرة جنيه اللى قفشونى بيهم.. بنتى يا بيه كانت بتعيط وعلى صرخة واحدة من الجوع وأنا مافيش معايا ولا مليم أحمر عشان أأكلها وأأكل نفسى.. جوزى سابها فى بطنى وطفش بقاله 3 سنين.. أعمل إيه؟! وكيل النيابة بص للبت وقالى يالّا امشى.. طلعنى (أفرج عنى) ويا ريته ما طلعنى، كنت أنا والبنت قعدنا فى الحبس ناكل ونشرب على حساب الحكومة».. الكلمات السابقة هذه التقطتها أذن العبد لله مساء الخميس الماضى من فم امرأة شابة كانت تفترش رصيف أحد شوارع قلب القاهرة وتحكى بانفعال وصوت عالٍ ومجروح حكاية لم أعرف أولها، وإن بدا آخرها واضحا من دلالة الحال، أما المستمعون فكانوا حشدا من النسوة تحلق حولها وذابت هى فى كتلتهن لأنهن جميعا يشبهنها فى ملامح البؤس والعدم. كنت سائرا فى اتجاه سيارتى الراكنة بالقرب من حشد النساء المتسربلات جميعا بأسمال بالية سوداء كأيامهن، وعندما وصلت إلى السيارة اكتشفت أننى فى حال نفسية لا تسمح لى بالقيادة ولا بالتفكير فى أى شىء سوى تلك الحكاية التى تسرب لأذنى منها المقطع سالف الذكر، فقررت أن أواصل المشى والتسكع على أمل أن يهدأ اضطراب نفسى وأتخفف قليلا من ثقل هم وغم ظلا راقدين على صدرى ساعات الليل كله. وصباح أمس جلست لأكتب سطور هذه الزاوية، وكنت على وشك أن أحكى كل حكاية المرأة التى تتمنى السجن لتأكل هى وصغيرتها «على حساب الحكومة»، بعدما استكملت من الخيال باقى تفاصيلها لكنى، إشفاقا على نفسى وعلى القراء، تراجعت بعدما تذكرت موقفا مشابها واجهته قبل نحو عامين وهربت من الكتابة فيه وقتها (بتحريض من زوجتى)، مستعينا بإبداع الفن.. يومها (15-7-2009) كتب السطور الآتية: .. حرمى المصون لم تستطع أن تجاملنى وإنما لامتنى بعنف واستصرخت ضميرى قائلة: إن الناس لا يعوذهم الهم ولا ينقصهم المزيد من الكآبة والغم، ومن ثم ناشدتنى الرحمة قليلا بعباد الله القارئين، لهذا فتشت ونقبت فى رأسى طويلا عن شىء يمت بصلة للموضوع ويكون فيه بعض «الطراوة»، وأخيرا اهتديت إلى ما تبقى فى الذاكرة الواهنة من وقائع فيلم «سارق الدراجة» الذى حققه أبرز رواد تيار «الواقعية الجديدة» فى السينما الإيطالية، المخرج والمبدع الشامل «فتريو دى سيكا» مفتتحا به ثلاثيته الرائعة (معجزة فى ميلانو، وإمبرتو دى، إضافة إلى سارق العجلة) وهى ثلاثية أطلق عليها دى سيكا (1901-1974) بنفسه وصف «ثلاثية دموع الفقراء». تجرى أحداث «سارق العجلة» فى العاصمة الإيطالية روما الخارجة توا من لهيب الحرب العالمية الثانية، وهى تكابد آثار هزيمة ثقيلة معجونة بخراب الحكم الفاشى (حكم موسولينى)، بينما البؤس والحرمان والبطالة يسحقون بقسوة أغلبية أفراد مجتمعها المنهك، ومن بين هؤلاء بطل الفيلم «أنطونيو» الذى أضناه البحث عن عمل، لكنه إذ يجد -بشق الأنفس- فرصة رزق شحيح من خلال شغلانة مؤقتة تتطلب منه اللف والدوران يوميا فى شوارع المدينة لكى يلصق إعلانات ورقية على الجدران، يكتشف أن الفرصة النادرة قد تضيع إذا لم يتمكن من شراء «عجلة» لا يملك من ثمنها مليما واحدا، فيضطر إلى بيع «اللحافين» أو «البطانيتين» اليتمتين اللتين تتغطى بهما أسرته فى زمهرير الشتاء، ثم بعد أن يفعل ويشترى «العجلة» تُسرق منه قبل أن يبدأ العمل الذى عقد عليه آماله كلها. وكما يتمسك الغريق بقشة فإن صاحبنا «أنطونيو» يقرر أن يبحث بنفسه عن عجلته المسروقة فيصطحب صغيره «برونو» معه فى رحلة تستغرق كل زمن الفيلم يبحر خلالها (مع كاميرا «دى سيكا» العبقرية) فى عالم الفقراء والبؤساء أمثاله، وفى اللحظة التى تتحقق فيها المعجزة ويعثر «أنطونيو» على عجلته يصدمه أن سارقها يعيش حالا أسوأ وأشد عدما من حالته، عندئذ لا يستطيع أن يقاوم تعاطفه مع هذا الحرامى الغلبان فيترك له «العجلة» مشفقا ومؤمنا بأنه لا حل سوى أن يسرق هو «عجلة» بديلة يراها مركونة فى الطريق.. غير أنه ما إن يمد يده إليها ويحاول أن يختلسها وينطلق بها حتى يمسكه المارة متلبسا بالسريقة فيوسعونه ضربا وركلا بلا رحمة ولا شفقة، وينتهى الفيلم و«برونو» الصغير يجاهد عبثا لإنقاذ والده الطيب من الهلاك.. وصباح الخير يا وطن.