«لما تلاقى الجد ف إيده حفيده.. والاتنين ماسكين فى إيديهم عيش فينو.. ويقول له تعالى يا جدو، ويمسك إيده ويشده.. ويقول له ياللا نصلى العصر.. يبقى أنت أكيد فى مصر».. بصرف النظر عن الدقة فى كلمات الأغنية، فإننى أود أن أقول إنها أغنية جميلة سيئة الحظ. جميلة لأن مؤلفها وملحنها محمود العسيلى قدم فيها كلمات بسيطة مؤثرة وتيمة موسيقية لطيفة ومحببة تعلق بالذهن بسهولة. وهى مع ذلك أغنية سيئة الحظ لأنها شبعت سخرية طوال السنوات الماضية من كل الناس فى مصر، فقرر معظمهم أن الجد يمسك بيد حفيده فى أى مكان فى العالم وليس بمصر فقط، كما أن أى شخص يمكن أن يحمل عيش فينو ويعود به إلى البيت حتى فى السعودية أو ليبيا! أما أنا فلم تكن هذه هى مشكلتى مع الأغنية، وإنما كانت دهشتى مصدرها أن محمود العسيلى ومى سليم ومحمد الكيلانى كانوا يقدمون أغنيتهم الجميلة عن دولة أخرى تختلف عن مصر كل الاختلاف، ذلك أن شحنة الطمأنينة والأمان والرضا والتسامح التى حملتها كلمات الغنوة قد تنطبق على دولة مثل فنلندا وأهلها الودعاء الآمنين بأكثر مما تنطبق على مكان مثل مصر فى زمن الرئيس المشلوح مبارك. لقد ظهرت هذه الأغنية عام 2006 فى وقت كانت عصابة حسنى قد أنشبت أنيابها وأظافرها فى لحم الوطن فجعلت منه قطعة لحم حمراء تنز دما.. فأى أمان هذا الذى ينتاب الجد الصالح وهو يمسك بيد حفيده مطمئنا ويذهبان معا لأداء الصلاة فى الجامع؟ ألم يعلم الجد أن مباحث أمن العصابة كانت تترصد المصلين وتسجل أسماء من يترددون على المساجد بانتظام؟ ألم يخش الجد على حفيده من أن يتم تسجيله أمنيا فى جماعة «العائدون من جمصة» أو تنظيم «الناجون من الحريقة»... إلخ تلك التسميات التى اخترعها رجال البوليس السياسى فى زمن الملعون. ثم ما حكاية الكنيسة التى جوها «دافى» وأصيل.. وهل يصدق صناع الأغنية كلام جرجس وعم نصر؟ إن الكنائس فى أيام المجحوم كانت تمور بالقلق والتوتر فى وجود جنود بؤساء على أبوابها يحمونها من هجوم الشبيحة العاملين فى خدمة جهاز الأمن والحزب الوطنى. أى جو «دافى» وأصيل يشمل الكنيسة بينما حبيب العادلى مسؤول الأمن الأول يدبر تفجير كنيسة القديسين ثم يزعم أن الفلسطينيين هم من قاموا بالجريمة. إن جرجس وعم نصر لم يكرها بعض قدر ما فعلا فى تلك السنوات الرهيبة التى تحالف فيها مبارك مع البابا شنودة من أجل تدعيم المشروع السياسى للبابا بوصفه رئيس دولة الأقباط الذى يحميهم من إجرام عصابة مبارك، وفى الوقت نفسه يدعوهم لطاعة مبارك وتأييده! وتمضى الغنوة فتقول: «لما تلاقى ف جرحك ألف عين باكية عليك وتلاقى ف فرحك زغاريط وزينة من حواليك.. وبيتك البسيط يتحول قصر.. يبقى أنت أكيد فى مصر». هذه فعلا تقاليد مصرية أصيلة ميزت المصريين دائما، ويمكن أن تنطبق على أحوال الناس فى فترة الأربعينيات والخمسينيات، بل طوال تاريخهم باستثناء الحقبة البشعة التى مرح فيها جمال مبارك وسرح وبرطع فى البلد ومكّن أصدقاءه اللصوص من خيرات مصر فاعتصروها اعتصارا، وجعلوا الناس تفقد الود والتراحم وتتقاتل من أجل رغيف عيش. هى فعلا أغنية جميلة تحمل معانى طيبة، وقد تنطبق معانيها الحلوة على أناس وبلاد أخرى ترعى حقوق الإنسان وتصون كرامته، لكنها لا تنطبق أبدا على مصر فى زمان الإرهابيين القتلة اللصوص الذين أخرجونا عن طورنا الهادئ وجعلونا نثور فى وجوههم ساعين إلى أن نعيد للأغنية صدقيتها من خلال انطباق الوصف على الموصوف.