كانت مكالمة تليفونية بينى وبين الصديق البراء أشرف، مخرج الأفلام التسجيلية، بخصوص فروق الأجيال فى مصر الثورة، وكان لدى البراء وجهة نظر مهمة بهذا الشأن، قرر أن يكتبها وقررت أن أنشرها له اليوم. يقول البراء.. من الظلم والغباء الاعتقاد أننا نزلنا إلى الشوارع فقط لإجبار مبارك على الرحيل.. للثورة وجهان، الأول سياسى، ويطالب بانتقال للسلطة السياسية من نظام فاسد وقذر إلى نظام سليم ونظيف. والثانى اجتماعى، يهدف إلى انتقال السلطة الاجتماعية من فئات عمرية أكبر، إلى شباب أصغر سنا. فى الوجه الأول للثورة. ظهرت مشكلة أساسية وهى الفلول والمنتفعون وأصحاب المصالح، وصارت المصائب تأتى واحدة تلو الأخرى بسببهم. فى اعتقادى أن هذا سهل ومقدور عليه، ربما لإيمانى الشديد أن السلطة سيتم تسليمها عاجلا أو آجلا، وأن الثورة السياسية ستنتصر، لأن الشعب يريد إسقاط النظام، ما استطاع إليه سبيلا.. فى الوجه الثانى للثورة، بات الكبار فى كل مكان، فى المجلس العسكرى، فى الأحزاب، فى جماعة الإخوان وتيار السلفيين، فى الكنيسة، فى برامج التليفزيون، وبالطبع فى مجلس الوزراء.. فى كل مكان يظهر الكبار ويتكلمون، والحق، أنهم يدعون أن الشباب بالفعل يجب أن يأخذ فرصته.. دعنا نعرف الكبار هنا بأنهم دائما أكبر من الستين، وتسبق أسماءهم كلمات مثل، دكتور، مستشار، مشير، مفكر، وبعضهم نراهم على شاشات مكتوب أسفلها صفة الكبير أو البارز أو القدير.. ثم أما بعد. الفلول، بين الكبار والصغار، هؤلاء الذين يقفون فى المنتصف بين من هم فوق الستين، ومن هم تحت خط النضج. فى الأربعينيات والخمسينيات. تراهم فى كل مكان، على المقهى، فى المسجد، فى البرامج أيضا، لكنهم أوسع انتشارا، وهم فى الواقع يقولون كلاما مزركشا. لا فائدة منه على الإطلاق. هؤلاء، أصحاب مصلحة فى أن تبقى السلطة الاجتماعية فى يد الكبار وحدهم، وأن يتعطل وصول الشباب إليها، حتى يمر الوقت، ويكبرون هم أيضا، بحيث ينالون صفات الكبير والبارز. فكر معى، كل أصحاب التصريحات المستفزة ينتمون إلى هذا السن، كل الذين يهرتلون (من الهرتلة) فى حياتنا السياسية والاقتصادية والدينية فى الأربعينيات والخمسينيات. صناع الكراهية والطائفية والعنصرية.. وكل الأشياء التى تنتهى ب«ية» إلا الديمقراطية والحرية.. كلهم، بلا استثناء، ينتمون إلى معسكر أبناء الأربعين والخمسين، لماذا؟ علمى علمك. اسأل نفسك، ما الذى كان يفعله ابن الأربعين فى شبابه؟ فى الواقع لا شىء. قضى هؤلاء شبابهم فى بداية عهد مبارك، حيث أزهى عصور الاستقرار. بحيث تحول الاستقرار إلى خيارهم الوحيد فى الحياة. هل هى مصادفة أن شهداء الثورة كلهم شباب؟ طيب، هل هى مصادفة أن صفحة «كلنا خالد سعيد» يديرها شباب فى عمر خالد سعيد الشاب أيضا؟ هل هى مصادفة أن الذين قتلوا أمام ماسبيرو من شباب الأقباط، الذين اعتقلوا فى أحداث السفارة من الشباب أيضا؟ إذا كانت الثورة قامت لأن الشباب دعوا إليها، وانتصرت لأن الشباب قتلوا فيها، واستمرت لأن الشباب يدافعون عنها، وستنتصر لأن الشباب مستمرون فى مطالبهم.. فما الذى يفعله هؤلاء فى حياتنا؟ الغريب أن أسوأ ما فى المجلس العسكرى ليس المشير الأكبر سنا، بل لواءات للمصادفة من نفس الجيل المعطوب، والمرشد ليس مشكلة الإخوان، بل قيادات وسيطة مثل صبحى صالح وعصام العريان ومحمد مرسى، وهم من نفس الجيل. والبابا شنودة هو الأكبر سنا، لكن التحريض يصدر فقط من رجال الدين من نفس الجيل، حتى الشيخ السلفى الذى وقف فى إمبابة يحرض على حرق الكنائس، لم يكن كهلا عجوزا، بل فى بدايات الأربعينيات. إذن فهذه ليست مصادفة. بل وسبحان الله، لا سحر ولا شعوذة، كل أربعينى وخمسينى وستينى محترم فى هذا البلد كان فى شبابه أكثر احتراما.. عصام سلطان، حمدين صباحى، عبد المنعم أبو الفتوح، حازم صلاح أبو إسماعيل، وغيرهم، ورغم اختلافنا السياسى معهم، نراهم فى النهاية أقرب إلى أفكار الشباب وطرحهم.. لكن، اسأل والدك عن رأيه فى مرشحى الرئاسة، ليتلو عليك قائمة تبدأ بعمرو موسى، مرورا بسليم العوا والبرادعى.. وحين تسأله عن المرشحين الأصغر سنا يقول: لسه بدرى. وفى الواقع فإنه وإن كان لا يزال الوقت مبكرا على مرشحى الرئاسة، فالأمر مختلف فى الشوارع والأحزاب والمساجد والكنائس والنوادى والمصالح الحكومية وأجهزة الدولة والوزارات ومجلس الشعب والمحليات.. كل هذه الأماكن تحتاج إلى جرعة إنقاذ وطنى شبابية. فقط، لأن الشباب قدموا السبت، وآن الأوان أن يحصلوا على الحد. حد أدنى للظهور، وحد أقصى للأعمار. فكر أننا نحب «سلفيو كوستا» الشباب، وشباب الإخوان أصحاب صفحات ال«فيسبوك» الجريئة، وشباب الأقباط المشغولين بمسألة الوطن قدر انشغالهم بمسألة قباب الكنيسة، وشباب الأحزاب القادرين على سحب الثقة من قيادات أحزابهم إذا وقعت يوما على بيان شائن، وشباب الموسيقى الذين أنتجوا للثورة أغنيات مبهرة، وشباب المخرجين وشباب الضباط وشباب المهندسين والأطباء. حتى فى الإعلام، التليفزيون المصرى كبير ينتمى للكبار، يحتاج إلى ثورة، والقنوات الفضائية الخاصة مجرد فلول تقف فى المسافة الفاصلة بين تليفزيون النظام، وبين وسائل إعلام شبابية كالإنترنت وال«فيسبوك» الذى اخترعه شاب فى العشرينيات. انتقال السلطة الاجتماعية لا يحتاج إلى نزول الشارع، هو فقط يحتاج إلى خروج من الإنترنت لكل بيت ومؤسسة، طيب، وما الذى يمكن أن نفعله فى جيل الفلول؟ سؤال مهم، من الممكن أن نخبرهم بهدوء وحكمة، أنه حظ أفضل فى المرات القادمة. الثورة انطلقت من الإنترنت الذى دخلنا عليه من هواتفنا عبر تقنية ال«ثرى جى»، الجيل الثالث، فالجيل الأول ينتمى له مبارك وقد فسد، والجيل الثانى ينتمى إليه أبى، وكان نائما صباح يوم 25 يناير، لأنه من الإخوان، ولم يصدر بعد قرار بالنزول، والجيل الثالث هو أنت وأنا، خالد سعيد ومينا دنيال وسيد بلال ووائل غينم ومليون اسم آخر، اعتقدوا جميعا أن الشارع للجميع، وأن «اللى ملهوش كبير يشترى له كبير». رغم أن «اللى ربى» ليس دائما أفضل من «اللى اشترى».. وهذه ثورة للصغار فقط، إلى أن يثبت العكس.