الشارع من ميدان التحرير إلى المستشفى القبطى كان عاديا بشكل مستفز، نسى الشارع ما جرى الليلة السابقة، اختفى كل العنف والدم والصراخ والفزع، وبعد ساعات نسى الشارع. أنا لا أنسى.. فى كل مرة أقول لنفسى (دى أكتر مرة تأثرت فيها)، وأستنتج سببا ما لزيادة تأثرى. الدم فى كنيسة القديسين، والرائحة فى الزرائب، وصوت الصلاة فى ماسبيرو. كنت أقف فى مدخل المستشفى القبطى، أعرف أن جثث الشهداء على بعد أمتار منى داخل المبنى الصغير المحاط بعشرات السيدات يرتدين السواد ويصرخن. أسأل نفسى كم مرة رأيت هذه العيون الدامية المنتفخة تحيط بى من كل جانب.. أجيب بصوت مسموع (كتير قوى..)، أسمع صوتا لرجل عجوز يأتينى من بعيد (إحنا تعبنا قوى)، أضع نظارتى السوداء لأخفى عينى، أشعر بالذنب لأنهن بكين كثيرا، وأنا لم أبك مثلهن. أنا حزينة.. لكن ليس حزن الأم التى فقدت ابنها الشاب (الرصاصة دخلت من هنا من صدره وخرجت من ضهره، ولا تكون إصابته رصاصة تانية فى ضهره؟ اعرف منين؟ يا ريتنى كنت معاه). تلطم الأم وجهها بكلتا يديها وتصرخ، فتمسك إحدى السيدات يديها وتبعدهما عن وجهها وتصرخ فيها (ما تلطميش إنت عارفة هو فين دلوقتى، ياريت نروح له، عيطى على فراقه بس ماتلطميش). تتجمع المشاهد فى ذاكرتى تدفع بعضها بعضا، أسمع أحدهم يقول (ليهم حق يعملوا اكتر من كده ليه؟ لأن الحكومة ما جابتش حقنا لا فى أطفيح ولا فى إسكندرية ولا فى نجع حمادى وإحنا سكتنا). (مكتوب عن المسيح أنه رأس الزاوية، ومن يسقط عليه يسحقه، إحنا دلوقتى فى مرحلة إمهال الله). (فين الطلقات فين الإصابات اللى بتأكد إن المسيحيين كان معاهم أسلحة. إحنا ولادنا جواهم الطلقات والجثث موجودة). سحبنى أحدهم من يدى (تعالى أدخلى)، أوقفنا شاب على البوابة (لأ ما تدخلش.. ما تصورش.. الأهل بس يدخلوا على ولادهم)، أصر مرافقى أن أدخل لأشاهد الجثث فى المكان المخصص لحفظ الموتى فى المستشفى القبطى، دخلت حتى لا أسبب له إحباطا، لكن لم أتحمل التوغل فى المكان وقفت أمام جثمانين يغطيهما قماش أبيض، لا يظهر منهما شىء، أنا لم أتحمل مشهد الأهل، كان يجلس بجوار كل جثمان على الأرض شخص يبكى، وكان بكاؤهما غير محتمل. اندفعت خارجة، أشق طريقى بين عشرات الملتاعين الواقفين على الباب. وبمجرد التقاطى أنفاسى قال لى رجل متورم العينين (هتعملى لنا حاجة عشان حق ولادنا ما يضعش)، قلت له (هاكتب)، قال (بس كده.. ما تقدريش تعملى حاجة.. تخلى النيابة تتحرك وتحقق وتجيب لنا حقنا)، قلت له (هاكتب). امتلأت عيناه بدموع جديدة (لا مش كفاية). هذا الحوار قديم جدا، لماذا يتجدد ثانية؟! لماذا ما زال يشعر الناس بكل هذا الظلم وهذا العجز إلى درجة طلب المساعدة من عاجزة مثلهم بعد الثورة (ياه ده أنا كنت نسيت الثورة). كيف حدث لنا كل هذا بعد الثورة؟ كيف دهست المدرعات متظاهرين وأطلقت عليهم الرصاص الحى بعد الثورة؟ وكيف كذب التليفزيون المصرى كل هذه الأكاذيب بغرض إشعال فتنة طائفية بين المسلمين والمسيحيين بعد الثورة؟ كيف ولماذا؟ هل السبب هو أن المظاهرات كانت تهتف ضد المشير؟ هل هذا يعقل و.. بعد الثورة؟!! نسينا الثورة ؟!!