من عاش أيام الثورة فى ميدان التحرير، أو فى غيره من ميادين المحروسة، لن ينسى أبدا روح المحبة والأنس والود والإيثار السائدة حينئذ بين أهل الميدان جميعا، مما كان يشعرنا حين نخرج من الميدان لأمر من الأمور، بأننا قد تركنا أهلنا الحقيقيين هناك، واحتمال تعرضهم للخطر، يجعلنا نسرع بالعودة إليهم. وروح المحبة هذه، تذكرنا ببعض ما كتب فى تراث الأدب الصوفى، خصوصا إذا ربطنا بين التجربة الثورية للشعوب، والتجربة الروحية للبشر. ولنتوقف قليلا أمام أحد أعلام التصوف، وهو محمد بن عبد الجبار النفرى (توفى 354 ه) صاحب «المواقف والمخاطبات» وعبارته الشهيرة «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة» وقد كتب فى موقف الأدب «قال لى طلبك منى وأنت لا ترانى عبادة. وطلبك منى وأنت ترانى استهزاء» إذ من يطلب من الله، سبحانه وتعالى، وهو لا يراه، فذلك نوع من العبادة، لأنه صلة بين المخلوق والخالق، لكن إذا ترقى المخلوق فى مقامات القرب، وعاين الحق، ووصل إلى مقام العبودية الكاملة، فلا يجوز له عندئذ أن يطلب أى شىء مهما كان! وإنما «آخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين» (يونس10) ويضيف النفرى «وقال لى إذا بلوتك فانظر بما علقتك، فإن كان بالسوى فاشك إلىّ، وإن كان بى أنا فقد قرت بك الدار» فعلى الإنسان منا أن ينظر إلى نوع بليته، وسبب همه وجوهر اهتمامه، وطبيعة اختباره، وهل هو معلق بالسوى، أى كل ما هو سوى الحق سبحانه، فعندئذ على هذا الإنسان أن يضج بالشكوى من حاله إلى المولى، عز وجل، فقد سقط فى التعلق بالأشياء، وهى مخلوقة من أجله، ومن ثم ما كان له أن ينزلق هكذا فى عبادة السوى! أما من كان اختباره، أو همه مركزا فى القرب من الحق سبحانه فقد قرت به الدار. أى استقر به المقام «فى مقعد صدق عند مليك مقتدر» (القمر 55) وكما قيل فى الكتاب المقدس «رأس الحكمة مخافة الله»، وهذه العبارة الكاشفة موجودة أيضا فى تراثنا الإسلامى، أما النفرى فقد قال لنا «رأس المعرفة حفظ حالك التى لا تقسمك» فأقصى ما تتعرض له روح الإنسان، وكذلك روح الأمة، هو هذا الانقسام أو التشتت الذى يصيب الإرادة بالتحلل، ويصيب الفرد أو المجتمع بالضياع! فلا بد من التركيز على ما يجمعنا معا، حتى نحفظ أرواحنا صلبة متماسكة. وينهى النفرى موقف الأدب بهذه الكلمات «وقال لى آليت لا أقبلك وأنت ذو سبب أو نسب» فلا سبب ولا حجة، ولا نسب ولا صلة، يمكن أن تقودك إلى مقام القرب منه، ولا حتى مجرد القبول، فلكى يقبل العبد بين يدى الحق، يجب أن يحتفظ بموقعه الحقيقى كعبد خالص، قد أسلم روحه، وقلبه، ووجهه لله رب العالمين.