كان كافكا مغرما بالحكايات والأمثلة، ومن بين حكاياته وأمثاله يفجعنى دوما استرجاع حكايته المعنونة «أمام القانون»، تلك الأمثولة التى نُشرت مرة منفصلة، ثم تضمنتها كذلك رائعته «المحاكمة»، على لسان قس يلتقيه البطل سيئ الحظ جوزيف ك. قرب نهاية الرواية. فى تلك الأمثولة يُفنى إنسان ما عمره بحثا عن لقاء مع «القانون»، وتضيع السنوات من بوابة لأخرى ومن حارس لآخر، دون تحقيق اللقاء المنشود. ما الذى يجعل القانون على هذا القدر من الضرورة؟ وما الذى يجعله فى الآن نفسه على هذه الدرجة من القسوة؟ المتأمل فى المشهد المصرى، الذى يخطو متأخرا ومتعسرا فى مخاض حداثى صعب، يشابه الوضع الأوروبى الكافكاوى الكابوسى قبل تسعين عاما، ربما يخرج ببعض التأملات التى تصلح كإجابات محتملة. بات من النفل أن نشير إلى عناصر المشهد المصرى فى لحظته الآنية، ولكن لنتذكرها معا على الأقل بغية تفادى وقوع فجوات فى خط فكرى أجتهد فى أن أظل ممسكا به: ثورة الخامس والعشرين من يناير فقدت زخمها المرحلى. فمكاسب الثورة الحقيقية التى لا نزال نتغنى بها حدثت فى أسابيعها الأولى، وما تلا ذلك كان تحللا فى قوتها، وتفتتا فى كتلتها. نختلف فى ما بيننا على كل شىء: الدستور، ومدنية الدولة، ومستقبل المؤسسات الشرعية، والموقف من الدولة نفسها، والموقف من المؤسسة العسكرية... إلخ. هناك عيوب بنيوية فى جميع مؤسسات الوطن، تحول دون استئثار -أو إيثار- مؤسسة دون غيرها بموقع الطليعة والقيادة. فمؤسسة الثورة، إن جاز التعبير، انقسمت بين دينيين ودنيويين، وخطاب الجماعتين وإن تشابه فى نغمته الفوضوية الأناركية، فإنه يتضاد فى مرجعياته الفكرية والعقدية. والمؤسسة العسكرية فشلت فى الانحياز إلى الثورة ووضعت نفسها بنص كلماتها على مسافة واحدة من الجميع، مما جعلها فى واقع الأمر خصما للجميع، إلا فريق الفساد وطبقة المنتفعين الذين سيعتبرون كل ما دون الهاوية مكسبا جادت به السماء. مؤسسة الدولة نفسها اكتشفت هشاشتها وارتباطها الكارثى بقوة دفع رموز السلطة المتهاوية، وكأن قرنين من تراث البيروقراطية -بمعناها الإيجابى- لم يكونا إلا صرحا من خيال.. والبقية معروفة. فى هكذا ظروف، أى جبل يعصم السفينة من طغيان الطوفان، سوى القانون؟ هل هناك جهة أو حزب أو طائفة أو فريق له موقف معاد من شعار سيادة القانون؟ أؤكد لكم أن لا. لماذا إذن يغيب هذا المطلب مع أنه هو المطلب الوحيد الجدير برفعه الآن واثقين من تمتعه بالإجماع؟ إذا قالوا الفقراء أولا، قيل بل الوطن أولا. وإذا قالوا الدستور أولا، قيل بل الانتخابات أولا. فمن يقول القانون أولا؟ وهل يخالفه أحد؟ لا أظن. فى هذه المرحلة التى تتسم بتوازن هش للقوى، التى يعجز فيها أى فصيل عن فرض رؤيته، ولعل هذا هو السر فى أن الجميع يطالب، وأن للجميع مطالب، دون قدرة على الفعل أو اتخاذ قرارات. وفى تلك المرحلة التى تحولت فيها مؤسسة الثورة رغما عنها، وبفعل القوى المضادة لها، وكنتيجة لأخطائها أيضا، تحولت إلى مجرد طرف من الأطراف، فى هذه المرحلة ما الذى بوسعنا أن نفعله؟ أزعم أن قصارانا الآن أن نركز على العمل السياسى، وعلى تفعيل الحياة السياسية، وعلى التسليم بأن القوى الثورية تفتتت وتحللت وتحولت إلى قوى سياسية يتنافس بعضها مع بعض وتتنافس جميعها مع الآخرين. هذه «الطبقة السياسية» التى هى قيد التكون والنشوء، لا تزال فى طور الطفولة. يجب أن نرصد «شخصنة» الأحزاب والحركات السياسية الشبيهة بالأحزاب، والأحزاب التى لا تزال تحت التأسيس. هناك نحو مئة «كيان» يمارس العمل السياسى فيما لا تتجاوز الأفكار أو شبه الأفكار فى العدد أصابع اليد الواحدة! هناك فكر/ فكرة الإسلام السياسى. وهناك اليمين الليبرالى، وكذلك اليسار الليبرالى. وهناك رغم الشحوب التيار القومى. فلماذا نحتاج إلى مئة جهة للتعبير عن أربعة أفكار؟ لا إجابة لدىّ سوى أننا لا نزال فى طور الشخصنة والشخصية والشخصانية، وأبعد ما نكون عن جواهر الأفكار. الحصول على حياة سياسية حقيقية رحلة لا محطة، بمعنى أنها تربية تستغرق سنوات، ولا بأس لدىّ من أن تكون لنا أهداف نعلم أنها تحتاج إلى سنوات من العمل. ما الذى بإمكانه أن يشكل الإطار لهذا العمل، والحافظ لحقوق وأمان رجل السياسة ورجل الدين ورجل العسكر ورجل الشارع ورجل الكنبة، سوى القانون؟ القانون وحده يا إخوانى هو العاصم الآن: وحده القادر على تنظيم عودة الأمن وتفعيل دوره. وحده القادر على تنظيم التظاهر والاحتجاج. وحده القادر على الفصل بين الشعب والجيش. وحده القادر على تسيير الثورة وعجلة الإنتاج جنبا إلى جنب. وحده القادر على حماية المواطن وحقوقه وكذلك حماية الوطن ومنشآته. لكنه، كما فى «محاكمة كافكا»، يمكن أن يتحول القانون إلى آلة مفرغة من كل معنى، أو بتعبير تراثنا الفقهى «حق يراد به باطل». من هذا الباب الأخير قرأت إجراءات المؤسسة العسكرية الحاكمة حين أغلقت مقاهى وكافيتيريات وسط البلد. فالغلاف حق لا مراء فيه: وقف التعدى على المساحات العامة وإزعاج السكان ومخالفة التراخيص، أما المضمون فهو تجفيف ينابيع المعارضة الشابة المسيسة. وليت السلطة الحاكمة كانت تشرع فى مواجهة مخالفات مقاهى مصر التى انتشرت كالسرطان فى السنين الأخيرة. وليتها حددت منتصف الليل موعدا لإغلاق أبوابها، ليتها أعادت المصريين شيئا ما إلى الممارسة العائلية واللمّة الأسرية. وأهم من كل شىء ليتها، ببساطة، تساعدنا على النوم ليلا، والاستيقاظ صباحا. ألا تكون ثورة حقا إذا حدث هذا؟