يستدعي إسحاق نيسان المسن المتقاعد الذي عمل في صناعة الزيت، ذكرياته حيث ترعرع في قرية "تل طويل" التابعة لمحافظة حلب شمال سوريا. حيث الكنيسة التي تزوج فيها، والكنيسة الجديدة التي ساعد في بنائها، والتي كانت تكتظ بالمصلين في أيام العطل، والأحياء الهادئة حيث عاشت العائلات المسيحية الآشورية معًا في هذه المنطقة لأجيال. إلا أنها أصبحت الآن "قرية أشباح"، حيث رصدت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، الوضع هناك بعد أن أصبحت الكنيسة عبارة عن كومة من الأنقاض، وسقط برج الجرس والصليب على الأرض، ولا يسير في شوارع القرية سوى الكلاب الضالة. ويقول إسحاق البالغ من العمر 79 عامًا، "كانت جميع المنازل ممتلئة، والآن أعيش فيها أنا وجاري فقط"، حيث أصبحت معظم المنازل فارغة، منذ أن هاجر أصحابها إلى ألمانياوأستراليا والولايات المتحدة وأماكن أخرى. المشهد نفسه تكرر في جميع القرى المحيطة، حيث كان المسيحيون الآشوريون، أحد الأقليات الدينية في سوريا، يزرعون ويربون الحيوانات على ضفاف نهر خابور في شمال شرق البلاد. هاجم تنظيم "داعش" المنطقة عام 2015، واختطف أكثر من 220 من السكان، إلا أنه تم طرد الجهاديين بعد بضعة أشهر من قبل القوات الكردية والمقاتلين المحليين، وأطلق سراح معظم الأسرى بعد دفع فدية باهظة. لكن المتطرفين هدموا العديد من كنائس المنطقة قبل مغادرتهم، وفر معظم الأسرى المحررين مع عائلاتهم وجيرانهم، مما أدى إلى تفتيت المجتمع. اقرأ المزيد: جارديان: الآشوريين في سوريا يدافعون عن قراهم ضد داعش وقالت رامينا نويا وهي عضو في المجلس المحلي الذي يحكم المنطقة، ل"نيويورك تايمز"، إن "الحياة هنا لطيفة للغاية لكن لا يوجد شعب". وأدت الحرب في سوريا التي دخلت عامها الثامن، إلى نزوح نصف سكان البلاد، وفر ملايين اللاجئين إلى الخارج، وفي الوقت الذي بدأت فيه حكومة الرئيس السوري بشار الأسد، تستعيد المزيد من الأراضي من المتمردين الذين سعوا للإطاحة به، يفكر البعض في العودة. إلا أن المجتمعات الضعيفة الأخرى، مثل تلك الموجودة في تل طويل، تعرضت لصدمة شديدة لدرجة أنها قد لا تتعافى منها أبدًا، تاركة ثغرات دائمة في النسيج الاجتماعي السوري. حيث أشارت الصحيفة الأمريكية إلى انخفاض أعداد المسيحيين في الشرق الأوسط خلال العقود الماضية، حيث أدى الاضطهاد والفقر إلى هجرة واسعة النطاق. وعاش حوالي 10 آلاف مسيحي آشوري في أكثر من 30 قرية في تلك المنطقة قبل بدء الحرب عام 2011، وكان هناك أكثر من عشرين كنيسة. إلا أن الوضع تغير تمامًا الآن، حيث يقول شليمون برشام، المسؤول المحلي في كنيسة المشرق الآشورية، إنه تبقى الآن حوالي 900 شخص فقط، وهناك كنيسة واحدة تقدم خدمات منتظمة. حيث أصبحت بعض القرى خالية تماما، فيما بقى في إحداها خمسة رجال فقط يحمون أنقاض كنيسة العذراء مريم، التي فجر الجهاديين أسسها، وهناك قرية أخرى يعيش بها أم وابنها فقط. اقرأ المزيد: الأممالمتحدة: «داعش» ارتكب إبادة جماعية بحق 3200 طفل وامرأة من الإيزيديين وشكك برشام في احتمالية عودة الكثير من سكان هذه القرى لمنازلهم، "كلهم يقولون أشياء لطيفة عن الرغبة في العودة، لكنني لا أعتقد أنهم سيفعلون". ويعد الآشوريون أقلية شرق أوسطية، تعود جذورهم إلى الإمبراطورية الآشورية القديمة، ويعيش معظمهم في إيرانوالعراقوسوريا وتركيا وعدد قليل من الدول الغربية، وينتمون إلى عدد من الكنائس، بما في ذلك كنيسة المشرق الآشورية والكنيسة الكلدانية، ويتحدثون اللغة الآرامية. وعندما بدأ داعش هجماته في العراقوسوريا، قتل الجهاديون واستعبدوا المسلمين الشيعة والإيزيديين، إلا أنهم سعوا إلى جني المال من الآشوريين، على أساس أن أقاربهم في الخارج سيدفعون ثمنًا باهظًا لإطلاق سراحهم من الأسر. وأشارت "نيويورك تايمز" إلى أن من الواضح أن هذا التكتيك كان فعالًا، فقبل ظهور تنظيم داعش، كان الآشوريون يغادرون الشرق الأوسط منذ عقود. وقام الكثيرون منهم بمساعدة ذويهم المحتجزين في سوريا، حيث قاموا بجمع الأموال وإرسالها لدفع الفدية، والتي كان يتم التعامل معها عن طريق أحد الأساقفة الأشوريين. وحدد مقاتلو داعش مبلغ 50 ألف دولار، مقابل الإفراج عن كل أسير، إلا أنهم في الغالب كانوا يقبلون بمبالغ أقل، وحتى الآن لم تكشف الكنيسة عن المبلغ الذي دفعته للتنظيم، إلا أن العديد من الافتراضات تقول إن المبلغ تجاوز أكثر من مليون دولار. الأمر لم يسر على ما يرام للبعض، حيث لقي ثلاث رهائن يرتدون بدلات برتقالية اللون مصرعهم في شريط فيديو أرسله الجهاديون إلى ذويهم لدفع مبالغ مالية مقابل آخرين الإفراج عن الآخرين. اقرأ المزيد: بعد انضمام «الإيجور» ل«داعش سوريا».. هل تشارك الصين في معركة إدلب؟ كما اختطفت امرأة، ولم تظهر منذ ذلك الحين، وافترض أهالي القرية أنها أجبرت على الزواج من أحد مقاتلي داعش. الصحيفة الأمريكية تقول إن "تلك الأيام من الخوف والعنف قد ولت، ولكن الندوب التي تركتها ما زالت موجودة في كل مكان". ففي قرية تل شميران، تعيش سميرة نيكولا، البالغة من العمر 65 سنة، بعد أن اختطفها مقاتلو "داعش" مع زوجها وأربعة أقارب آخرين، ثلاثة منهم أطفال، وبعد إطلاق سراحها، اكتشفت قيام مقاتلو التنظيم بنهب منزلها، وسرقة شاحنة عائلتها واثنين من أبقارها. وتقول سميرة التي تعيش مع ابنها، فيما هاجر أبنائها الآخرون إلى أسترالياوألمانيا، إنها لا تريد المغادرة، "فقط ابعدوا الأشرار عنا، نحن لا نطلب أي شيء آخر من الله". فيما يقول ابنها، نبيل يوخنا، إنه بقي معها حتى الآن، لكنه ليس متأكدًا إلى متى سيستمر في البقاء، "نحن بقينا هنا، ولكن إلى متى؟ حتى إذا أردنا الزواج والاستقرار هنا، لم تعد هناك فتيات". وأشار نبيل إلى أنه لم يعد يثق بالعرب في القرى المجاورة، حيث يعتقد أنهم ساعدوا تنظيم داعش، قائلًا "في الماضي، كنا نحيي بعضنا البعض عندما نلتقي على الطريق، لكن الآن، لا أحد يقول أي شيء".