قبل عشر سنوات وضع عباس بيضون، الشاعر والروائى، لبنان إزاء العراق بوصفهما بلدين عربيين خبرا كما لم يخبر أشقاؤهما مرارة عنف منفلت، واليوم يبدو أن السنين العشر نزعت عن البلدين فرادتهما، فهو إذ يقدم للقراء كتاب "فى الأحوال والأهوال- المنابع الاجتماعية والثقافية للعنف" فى طبعته الصادرة عام 2008، عن دار الفرات للنشر والتوزيع- بيروت، للمفكر العراقى فالح عبد الجبار، الذى غيبه الموت قبل أيام. يبدى (بيضون) حيرة ممزوجة برعب التجربة الطويلة: "لا أعرف إذا كان العنف العراقى يحير أو لا يحير فالح عبد الجبار، لكنى مثله لا أشك فى أن الغريزة لا تكفى جوابا، أنا عقب ما يزيد على ثلاثين سنة مضت على آخر حرب لبنانية لا أزال حائرا محيرا، ومثل فالح لا تكفينى الطبيعة البشرية تفسيرًا، إذ عاينت بأى سرعة يتكفل العنف بقلب الطبيعة البشرية وتسليحها بقساوة وشراسة لم تكونا ملحوظتين فيها، ولا نستطيع إلا بالتعنت، الزعم بأن هذه هى الحقيقة المخيفة، لقد تحطمت أمامى، وبأى سرعة، تربية أشخاص قامت منذ الطفولة على التنازل واللين والدماثة، بل إن أكثر هؤلاء سلاسة طبع كان أحيانا الأعنف والأكثر عدائية، أسوق ذلك لأقول إن العنف يبقى رغم التحليل التاريخى محير، بل يبقى بمعنى ما سرا ولا يخفف التحليل من مفاجآته". لم يعد العنف عراقيا أو لبنانيا فقط، الملتحقون بالقائمة ربما كانت حيرتهم أعنف، ولن يكون تجاوزا عن الواقع أن نقول: حيرة عباس بيضون أضحت حيرتنا جميعا. فى "تقديم القول" نلمح حيرة فالح؛ وإن تكن متوارية، يخبرنا ببساطة أن الفكرة تتبدل ملامحها بدرجات مختلفة حين تخطو باتجاه الخطط والتنفيذ والصياغة، تلقى فالح دعوة من الشاعر شوقى عبد الأمير؛ مبتدع وصاحب مشروع "كتاب فى جريدة"، وها هو يقدمها هكذا: فكرنا فى نص عن العنف (أو اللا عنف)، منابعه، بناه، ومعناه، للوهلة الأولى بدت الفكرة مغرية، لكن نكد الأشياء يضعف غوايتها، وما أن تدلف باب العنف حتى تجده دوارا يعيدك إلى نقطة المبتدئ، وجدتنى مسوقا بدراسة جديدة. شوقى وفالح، العراقيان، كانا قد خبرا، حين فكرا فى الكتاب، العنف فى ذروة جنونه الممتد لربع قرن، إلى ثلاث حلقات نارية دخل العراق، واحدة تلو الأخرى: حرب متواصلة لثماني سنوات مع إيران (1980 - 1988)، وحربان -عدوانيان فى واقع الحال- شنتهما أمريكا، أولهما (1990) وكان برفقتها اثنين وثلاثين دولة أخرى، والثانية (2003) أفضت إلى عنف يومي وصل إلى كل مكان، وفى سنوات عمر الكتاب دخل العراق إلى الحلقة الرابعة الأكثر هولا، والتى سيطلق عليها فالح "التقدم إلى الماضى" مع ظهور "دولة الخلافة". هكذا يؤسس فالح مدخله: "يبدو العنف قريب الشبه بمُثُل أفلاطون، عاجزا عن الوجود بذاته، شأن بياض أفلاطون العاجز عن الوجود بمعزل عن الأشياء البيضاء: قماشة، زهرة، طبشور، إلخ، كلما أوغلنا فى دروب البحث عن العنف انتهينا إلى الغرائز" أو "المجتمع". فكثرة من علماء الاجتماع والبيولوجيا تنتهى دوما إلى هزال النتائج التى تقول إن العنف ينتمى إلى رد فعل "طبيعى" وإن العدوانية "انحراف غريزى". وثمة فريق آخر من علماء الاجتماع والبيولوجيا يرون أن البشر لا يملكون أية "غرائز". وأن الإنسان يولد بمجموعة انعكاسات أساسية، وأن الحاجات البيولوجية: الاغتذاء، الارتواء، الجماع، والحفاظ على درجة حرارة الجسم (برد أو قيظ) ليست غرائز، بل حاجات وأن طرق إشباعها متباينة، بتعبير آخر أنه لا وجود للغريزة بوصفها نمطا من السلوك تقرره الجينات، بل إن طرق الإشباع محددة ثقافيا، وتتباين بتباين الثقافات". الكتاب كما يصفه، بيضون، "فسيفساء متكاملة لعلاقات الدولة والثقافة والمجتمع وليس خارج هذه العناصر ما يبقى لباحث، والنص هو فى تبادل وتواصل وتحولات هذه الأركان الثلاثة، بحيث أن قارئا مثلى لا يستطيع أن يعزل عنصرا بدون أن يهدم العمارة، أو بدون أن يقع فى واحدية مؤسفة". فى جملته الأولى يكثف، بيضون، تقديمه: "يكاد نص فالح عبد الجبار لا يترك زيادة لمستزيد"، ويعود ليقول: لا يطمح قارئ مثلى فى إضافة أو تفكيك أو إعادة تركيب، إنما أذكر فى هذا السياق شيئا قرأته من زمن بعيد لدولوز، وأظنه من كتاب طريف له بعنوان ريزوم والريزوم هو الجذر الذى يتكون فى الأرض، ويستطيل بدون نسق ثابت أو نهائى، أذكر أن دولوز رأى فى الكتب يومها أنها عدة شغل، وأننا نختار منها ما ينفع فى شغل ما، والأرجح أننا نصنع بالكتب جميعها هذا الصنيع، وأن ما تصير إليه الكتب جميعها هو أن تتحول عناصر معزولة مفردة فيها إلى براغ وتوصيلات ومحاور فى ماكينات عقلية أو أدبية أو نفسية أو حتى عملية، وثمة إغراء فى هذا السبيل بأن تنتزع من "أحوال وأهوال" فالح عبد الجبار ما يعين على تفكر الوضع اللبنانى". ها نحن نقع على المفارقة المخيفة، ف"بيضون" ينظر إلى "أحوال وأهوال" فالح لينزع منه ما يعين على تفكر الوضع اللبنانى، وبعد عشر سنوات يزاحمه: سورى، ويمنى، وليبى، و....، و.. يستلهم بيضون من الذاكرة طرفا من الفيلسوف الفرنسى جيل دولوز (1925 – 1995)، الذى يعد كتابه التكرار والاختلاف (1969) من بين أهم أعماله، وفيه انتقد جميع الفلسفات التى سعت إلى إلغاء الاختلاف، وكأنه شر عن طريق إخضاعه لمبدأ الوحدة والهوية الأعلى، ومن هذا المنظور ينتصر ضد أفلاطون للسفسطائيين، لأنهم حملة الاختلاف، وسنجد فى الأيام التى كتب فيها، بيضون، مقدمته أصداء عربية كثيرة لذلك الطرف، فى كتابه "رأس اللغة جسم الصحراء" -2008- دار الساقى، يعود أدونيس إلى بداياته الفكرية التى تذكّره ب"المفهوم الذى طرحه، في ما بعد، الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، وما سمّاه الريزوم أو الجذمور، كما يترجمه "المنهل" -قاموس فرنسى- عربى- فالجذمور مجموعة من الجذور تتلاقى وتتشابك، أصليا. والآخر إذن، بدئيا عنصر مكوّن من عناصر الذات. لا ذات إلا متشابكة مع الآخر. وهو مفهوم يجنبنا فرض التعريب أو قمع الجماعات الإثنية والاقليات الدينية وإلغاء الهويات وقسرها على الذوبان في هوية عربية واحدة. يجنبنا كذلك الفرز الإتني اللغوي والاجتماعي، فلا يعود المجتمع مجموعة من العناصر المفككة، المتضاربة، كل منها ينظر إلى الآخر بوصفه عدوا، إنما يصبح متحدا اجتماعيا، مدنيا، واحدا. التهجين، التعددية، والتركيب، هي في هذا الإطار، عبارات ليست مجرد صفات أو حالات، إنها كذلك أفعال تتم في التفاعل وإعادة التشكيل، بحيث تتعذر معرفة الأصول، وتزول مفهومات الانتماء القومي إلا إلى المجتمع والأرض التي تحتضنه."، ويخبرنا كاظم جهاد أن دولوز قد وضع "الجذمور"، بالتعاون مع المفكر والمحلل النفسي الراحل فيليكس جواتاري، وإصداره فى كتيب مستقل في البدء، ثم جعلا منه بعد ذلك، ومع بعض التعديلات، فاتحة كتابهما "ألف هضبة".