يريد قارئ العدد (653) - يناير 2018- من السلسلة الشهرية "كتاب اليوم"، الصادرة عن "دار أخبار اليوم" الذى يحمل عنوان: في سبيل الحرية.. رواية بقلم جمال عبد الناصر، أن ينهى بحثه فى "اتهام" عبد الرحمن فهمى، للطالب جمال عبد الناصر حسين بأنه "نقل الصفحات العشر من رواية للبارونة أوركيزى"، وإذ يغادر "عالم" البارونة أوركيزى؛ بعدما فشل فى أن يعثر على مجرد "قرائن" على أن شخصية "المقنع"؛ كما نظر إليها مرارا فى ورقات "جمال"، منسوخة من شخصية "السير برسى بلاكنى" المتخفى وراء شخصية "زهرة كزبرة الثعلب القرمزية"، يسجل فى ملاحظاته أن مجمل الرؤية التى تقدمها البارونة مضاد تماما لما يمكن أن نجده فى رؤية طالب الثانوى جمال عبد الناصر فى عام 1935، ذلك أنها لا تنظر فقط إلى الثورة الفرنسية نظرة عداء مستحكم، بل لأنها تزدرى؛ ربما ب"عنصرية"، كل ما يمت لتلك الثورة من أفكار وشعارات، وليس فقط بعض ممارساتها فى مرحلة واحدة فقط من عمرها الذى تجاوز عقد كامل من السنين، وتتبدى تلك الرؤية فى أقصى تعبيراتها فى نظرتها للنساء الفرنسيات اللائى بات يطلق عليهن لفظ "المواطنات"، ذلك اللقب الذى بات بمفرده مشروعا؛ وفقا لقرارات الثورة بعدما تم إلغاء كل الألقاب الطبقية والدينية، فى التخاطب بين الفرنسيين جميعا، والذى لم يصلنا إلا مع النصف الثانى من خمسينيات القرن العشرين. جمال عبد الناصر والبارونة أوركيزي والتحقيق في سرقة «الشيطان المقنع» البارونة تصوب سهامها مباشرة إلى الحدث الأكثر سطوعا فى الثورة، لأن أدنى معرفة بأحداث تلك الأيام ستحتل فيها تلك الجملة المنسوبة إلى الملكة مارى أنطوانيت (1755- 1793) مركز الصدارة الفائقة الجاذبية؛ إذ ينسب للملكة أنها سألت فقيل لها إن النساء يتظاهرن، فسألت عن السبب، فقيل لها إنهن لا يجدن الخبز ليطعمن أطفالهن، فقالت: "إذا لم يكن هناك خبزٌ للفقراء.. دعهم يأكلون كعكا (جاتوه)" هذه الجملة تطغى كثيرا حتى على شعار الثورة الفرنسية الخالد: الحرية والإخاء والمساواة، لذلك تصوب البارونة سهامها إلى "المواطنات" لتجردهن من أى سمات إنسانية، وبالطبع من كل ما له علاقة بالأنوثة والأمومة. عبد الناصر «في سبيل الحرية».. ماذا فعل به السجن خلال ساعات قليلة؟ عبارة ماري أنطوانيت، ملكة فرنسا، تلك؛ والتى ذكرها جان جاك روسو في أحد كتابه دون أن يوثقها أو يذكر شخصية من نقلها عن لسان الملكة باتت "أمثولة" للثورة، ولكن هناك تشكيك مستمر فى نسبة الجملة للملكة. عبد الناصر «في سبيل الحرية».. التظاهر وإلقاء الحجارة دون معرفة السبب والحال أن النساء لعبن دورا رئيسيا فى الأحداث الباكرة للثورة، بداية من مسيرة النساء إلى قصر فرساي (5 أكتوبر 1789)، والتى تعرف أيضا ب"مسيرة أكتوبر"، أو ب"الزحف إلى فرساي"، والتى يعتبرها الكثير من المؤرخين من أوائل الأحداث الأكثر تأثيرا في مسار الثورة الفرنسية، ففى باريس وطوال شهري أغسطس وسبتمبر، تزايد نقص الخبز وراحت ربات البيوت يناضلن للحصول عليه من المخابز، وفي إحدى نوبات الشغب هذه أعدم العامة خبازًا وأحد مسئولي البلدية· جمال عبد الناصر «في سبيل الحرية».. الواقعي والمتخيل ودعا جان بول مارا (1743- 1793) إلى مسيرة للجمعية الوطنية إلى القصر الملكي فى فرساي، و"مارا" أحد أهم مفكري وقادة الثورة الفرنسية وأكثرهم راديكالية، يوصف عادة بأنه "متعطش للدماء، نافذ الصبر، هستريًا، وأقرب إلى الجنون"، لكنه كان صاحب تأثير كبير على الثورة الفرنسية؛ وربما على النساء خاصة، لعب دورا مركزيا فى الثورة، وكانت كلماته ترنّ في آذان الجمهور. جمال عبد الناصر «في سبيل الحرية».. فولتير وعودة الروح دعوة "مارا" كانت بهذه الكلمات: "عندما يكون الأمن العام في خطر لا بد للشعب أن يستولي على السلطة من أيدي أولئك الذين يقبضون عليها.. ضعوا هذه المرأة النمساوية (الملكة).. في السجن.. اقبضوا على الوزراء ومساعديهم وكبلوهم بالحديد.. تأكدوا من وجود المحافظ (رئيس البلدية) ذلك البائس الدمث المستغرق في أحلام اليقظة والقادة التابعين له، لا تدعوا الجنرال لافاييت يبتعد عن نواظركم واقبضوا على مساعديه... فلا حق لوريث العرش في الغداء طالما أنكم لا تجدون الخبز.. نظموا صفوفكم المسلحة.. هيا إلى الجمعية الوطنية لنطالب معا وجميعًا بالطعام... طالبوهم أن يكون لفقراء الأمة مستقبل آمن من خلال تضامنها.. إنكم إن رفضتم الالتحاق بالتشكيلات المسلحة فليس أمامكم إلا الاستيلاء على الأراضي والذهب الذي يمتلكه الأوغاد الذين يريدون إجباركم على شروطهم في ظل الجوع، اقتسموا فيما بينكم ذهبهم وممتلكاتهم.. هيا احملوا رؤوس الوزراء وتابعيهم التافهين.. هيا إنه الوقت المناسب!". جمال عبد الناصر «في سبيل الحرية».. برسي بلاكني ومقاومة الإرهاب بدأت المسيرة من أسواق باريس، صباح 5 أكتوبر 1789، وانطلقت بحشود من النساء نحو قصر فرساي، ثم بدأ التجمع في وسط المدينة نحو بلدية باريس، لمطالبتها بمعالجة الأوضاع والمطالب النسائية بالاستجابة للحالة الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي يواجهنها، وخاصة نقص الخبز وارتفاع الأسعار والفقر، ثم تحركت المسيرة؛ التى باتت تضم الآلاف، إلى قصر فيرساي، وحاصرت الحشود القصر، وانتهت بمواجهة عنيفة، قدّر عدد المتظاهرات بنحو 7000 امرأة، في حين قام 20.000 عنصر من الحرس الوطني بتأمين مقر السكن الملكي، حاولت النسوة اقتحام القصر، مما أسفر عن مقتل عدة حراس. كانت المسيرة النسوية إلى قصر فيرساي حدثا وإشارة مهمة في تاريخ الثورة الفرنسية، وهى بالإضافة إلى اقتحام سجن الباستيل، الحدثان الأكثر إلهاما ورمزية فى تاريخ تلك الثورة، فذلك اليوم أصبح ملهما لكل حركة اجتماعية تحررية فى العالم؛ وخاصة فيما يتعلق بدور وفاعلية المرأة وتأثيرها فى تغيير طبيعة العلاقات الاجتماعية. جمال عبد الناصر «في سبيل الحرية».. الثورة والغوغاء المتوحشون هذا هو المشهد الذى تريد البارونة أن تمحوه، وتنتقم من المشاركات فيه، ليس وصفها ل"المواطنات" الفرنسيات فى روايتها "سآخذ بثأرى" سوى رغبة ملحة فى الانتقام، رغبة هى فى جذرها موقف طبقى عنصرى، وهذه هى كلماتها: "وليس هناك شك فى أنه من الأليق للسيدات المحترمات أن يقبعن فى دورهن إذا ما وافت الساعة الخامسة مساء.. أما المخلوقات المسنات فى خلقهن البالية ونظراتهن الوحشية اللاتى يتجمعن فى ركن الشارع ليسخرن من كل عابر سبيل أقل منهن قذارة فمن الإجحاف أن يطلق عليهن نساء الآن". لا يوجد بالتأكيد أدنى أثر من كل عالم البارونة أوركيزى الروائى فى ورقات "جمال"، الاحتمال الوحيد الواقعى، إذن، فى اتهام عبد الرحمن فهمى محصور فقط فى شخصية "المقنع"، ولأنها شخصية محورية تماما ينهار كل البناء القصصى فى حال غياب سماتها تلك؛ وهى سمات مشتركة، وربما متطابقة مع "زهرة كزبرة الثعلب القرمزية" فلابد أن يظل التحقيق مفتوحا، ولأن القارئ لم يتوفر له بعد إجابات شافية على الأسئلة الحاسمة: هل ترجمت روايات البارونة للعربية قبل 1935، فقرأها "جمال" وتأثر بها؟، وهل عرض الفيلم المأخوذ عن رواية "زهرة كزبرة الثعلب القرمزية"؟، أم أن "جمال" قراها بالإنجليزية، أو حكى له أحدهم عن الرواية أو الفيلم؟ جمال عبد الناصر والبارونة أوركيزي وبينهما «في سبيل الحرية».. الأسئلة الحريفة فى حال غياب إجابات تلك الأسئلة لا يظل أمام القارئ إلا أن يبقى البحث "التحقيق" مفتوحا بانتظار أدلة جديدة، لكنه راغب فى مواصلة البحث بعيدا عن هذا الاتهام، لمحاولة الإجابة على أسئلة أخرى متعلقة بورقات "جمال"، ومسابقة المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، ودلالة نشر "فى سبيل الحرية" وجعلها مقررا دراسيا، وأخيرا نشرها فى سلسلة "أخبار اليوم".