الصراع اللغوي بين الفصحى والعامية، يشكل واحدًا من الظواهر اللغوية والاجتماعية والثقافية الممتدة في المجتمع المصري، وهي تعبر عن بعض التناقضات بين اللغة الكتابية واللغة الشفاهية، بين غالب الخطابات المكتوبة أو السرديات، وبين الخطابات الشفاهية في الاتصال اليومي والمعيشي، بعض السرد الروائي والقصصي الذي يتداخل مع بعض من اللغة العامية، وكذلك الأمر بالنسبة للخطابات الشفاهية السياسية، بها بعض من الفصحى، وبعض من العامية لاعتبارات تتصل بسعي السياسي للتأثير والتعبئة للمخاطبين بها، أيًا كانت شرائحهم الاجتماعية ومدى حظوظهم من التعليم والثقافة والملكات اللغوية، وهي ظاهرة تاريخية وسياسية ولغوية لا سيما منذ تأسيس نظام يوليو 1952، في عديد عهودها من جمال عبد الناصر والسادات ومبارك حتى في أعقاب الانتفاضة الجماهيرية في 25 يناير 2011 والمراحل الانتقالية الأولى، والثانية، والثالثة التي لا تزال مستمرة حتى الآن! الثنائية اللغوية الفصحى والعامية، تبدو في بعض الأحيان ضدية الطابع حيث لا يمكن استخدام الثنائية في الكتابات الأكاديمية في العلوم الاجتماعية، وفي أحيان أخرى تشير إلى بعض التوافق والتداخل بين كليهما، في بعض من لغة السرد والشعر العامي، وفي النصوص المسرحية، والقصص، وفي لغة السياسي وخطاباته. الصراع بين اللغة الفصحى والعامية يعود إلى مطالع النهضة المصرية منذ منتصف القرن التاسع عشر، وطيلة القرن العشرين، وممتدة، فهي إشكالية تاريخية ومستمرة إلى الآن، ويمكن رصد معالمها الرئيسة والتوترات المصحوبة على الصراع فيما بين كلا اللغتين على النحو التالي: 1- في عام 1868 كتب رفاعة رافع الطهطاوي كتاب "أنوار توفيق الجليل من أخبار توثيق بني إسماعيل"، ذهب فيه إلى "إنَّ اللغة المتداولة المُسماة باللغة الدارجة التي يقع بها التفاهم في المعاملات السائرة لا مانع أن يكون لها قواعد قريبة المأخذ تصنف بها كتب المنافع العمومية، والمصالح البلدية.. "وكلا التعبيرين الآخيرين المنافع العمومية، والمصالح البلدية يشيران إلى لغة الكتابة الرسمية. (انظر الباحث عدنان أبو شعر في مقاله الفصحى في مواجهة العامية (Majles.Aulkah.net) أي استخدام أجهزة الدولة للغة العامية في مكاتباتها ووثائقها، وعملها الداخلي وفي علاقاتها مع الجمهور. ويرصد بعض الباحثين -عدنان أبو شعر في مقالة سابق الإشارة إليه- التطورات التاريخية للدعوى إلى استخدام اللغة العامية بديلاً عن اللغة العربية الفصحى، وعلى رأس هؤلاء المستشرقين الألماني "ولهلم اسبيتا" مدير دار الكتب المصرية، الذي ذهب في كتابه "قواعد العربية العامية في مصر" إلى أن الكتابة بالفصحى لا تؤدي إلى نمو وتطور الأدب. ثم تلاه المستشرق الألماني كارل فولرس مدير دار الكتب المصرية الذي جاء بعد "ولهم اسبيتا"، الذي كتب كتاب "اللهجة العربية الحديثة"، والذي طالب باستخدام اللغة العامية، واستعمال الحروف اللاتينية في كتابتها، وهو ما تبناه بعض كبار المفكرين المصريين فيما بعد. ثم دعا اللورد دوفرين الوزير البريطاني عام 1882 إلى استخدام العامية وعدم استخدام الفصحى في تقرير له لوزير الخارجية البريطاني بهدف تشجيع اللهجة العامية المصرية. الواضح أن وراء الدعوة إلى استخدام العامية وهجر اللغة الفصحى، كان يقف وراءه بعض من المستشرقين الأوروبيين إلى حد الدعوة إلى صياغة أبنية نحوية، وقواعد للغة العامية، ثم إلى كتابتها بالحروف اللاتينية، على نحو يشير إلى محاولة إيجاد بعض من المشابهة بين العامية المكتوبة بالحروف اللاتينية، وبين اللغات اللاتينية، وهى حالة نفسية مصدرها الحالة الكولونيالية، ونزعة الاستعلاء الاستعماري الرامية إلى إعادة صياغة لغة من هم في وضعية الاستعمار وتحت الاحتلال الأجنبي. يمكن القول أيضًا مع حسن النوايا أن بعضهم توقف أمام ظاهرة الجمود اللغوي في الفصحى وعدم حركيتها في التعبير الأدبي الحديث، ومن ثم ذهب إلى أن الحل يكمن في حيوية اللغة العامية وتطورها، ومن ثم هي أقرب إلى لغة الكتابة الأدبية في الرواية والقصة القصيرة والمسرح. لم يتناول بعضهم أثر حالة الاستعمار في إعاقة اللغة العربية عن التطور ضمن أسباب أخرى. يلاحظ أيضًا أن الإدارة الاستعمارية البريطانية كانت تأخذ بأسلوب الإدارة غير المباشرة لمستعمراتها، وتترك بعض نخب البلاد المستعمرة الموالين لها، أن يديروا من خلالها شئون الإدارة اليومية والحكم، وذلك على عكس الاستعمار الفرنسي، وأسلوب الإدارة المباشرة، وفرض اللغة الفرنسية قسرًا في التعليم والإدارة والوثائق والمكاتبات الرسمية، وهي نزعة كولونيالية اقتلاعية للغة البلاد المستعمرة وشعوبها على نحو ما تم في الجزائر وتونس والمغرب -رغم بعض المقاومات من خلال الدين واللغة العربية- حيث كانت حالة الجزائر واقتلاع اللغة العربية، علامة دامية ثقافيًا على إدانة هذا النمط الكولونيالي البغيض. إن الطابع الاستعماري وراء الترويج إلى اللغة العامية في مصر، يبرز أيضًا في دعوات ويلكوكس الذي نشر عام 1926 رسالة "سوريا ومصر وشمال أفريقيا تتكلم البونية لا العربية" ودعا لأن تكون اللغة العامية المصرية هي اللغة السائدة في التعليم لمدة عشر سنوات. ثم قام القاضي الإنجليزي "سلدن ولمور" عام 1926، وزميل له فيليوت أستاذ اللغات الشرقية بجامعة كامبريدج في كتاب لهما بالإنجليزية "المقتضب أو الوجيز في عربية مصر"، والذي دعيا فيه إلى أن يكون العامية بديلاً عن الفصحى، ووضع قواعد تسهل تعليم الأولى. 7- قامت الحكومة البريطانية بدعم هذه الدعوة، ومن ثم شجعت على صدور جرائد باللغة العامية، حيث صد منها عام 1900 سبع عشر صحيفة. (وفق عدنان أبو شعر في مقاله الفصحى في مواجهة العامية). لا شك أن تشجيع الحكومة والإدارة الاستعمارية البريطانية في مصر، تشير إلى البُعد الكولونيالي في بعض مرامي هذه الأطروحة اللغوية الشكل والسياسية المضمون والمرامي. من ناحية أخرى محاولة لقطع بعض الروابط العضوية بين اللغة العربية الفصيحة، وبين حركة الحياة والكتابة والتفكير لصالح العامية، ومن ثم بناء بعض من الحوائط الثقافية بين العربية، وبين البُعد الديني الذي يستخدم في المقاومة ضد الاستعمار ولو على الصعيد النفسي الجمعي. 8- من المصريين كان أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد الذي طالب بتمصير اللغة العربية، وكتب عددا من المقالات في صحيفة الجريدة عام 1913، ودعا لاستعمال اللغة العامية بديلًا عن اللغة العربية الفصحى، وذلك لإنهاء ازدواجية اللهجة عند المصريين، وهي جزء من تطلعات بعض أدباء القومية المصرية، إلى تمصير لغة الكتابة والمشافهة والحياة. 9- ذهب المفكر الكبير سلامة موسى إلى "ضرورة توحيد اللغة واتخاذ العامية، انطلاقًا من أن اللغة الحية التي يستخدمها الناس في المجتمع لا بد أن تكون قادرة على تطوير لا تجميد الكلام". 10- ذهب شبلي الشميل إلى "استبعاد العربية والعامية معًا واتخاذ لغة أجنبية لتدريس العلوم الحديثة والتأليف فيها، بهدف إحيائنا علميًا وثقافيًا واقتصاديًا. في هذا السياق جاءت دعوات كتابة العربية بالحروف اللاتينية، ومنهم في لبنان سعيد عقل، وأنيس فريحة". 11- ودعا أيضًا المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون عام 1929 إلى "أنه لا حياة للغة العربية إلا إذا كتبت بحروف لاتينية"، وتحمس لهذه الفكرة عبد العزيز فهمي. (انظر في هذا الصدد موسوعة ويكبيديا https://arz.m.wikipedia.org.wiki,...) 12- ومن دعاة العامية مصطفى صفوان عالم النفس اللاكانى ذائع الصيت، الذي ترجم عطيل إلى العامية المصرية، وبيومي قنديل في كتابه حاضر الثقافة في مصر، الذي اعتبر اللهجة المصرية الحديثة، هي المرحلة الرابعة والأخيرة من اللغة المصرية القديمة العلامات سابقة السرد في الدعوة إلى العامية وتصعيدها، واتخاذها لغة للكتابة والمشافهة، تشير إلى أننا إزاء إشكالية تاريخية بامتياز ومستمرة، وإن خفتت بعض الأصوات الداعية لرفع هذه الازدواجية. نستطيع القول إن هذه الدعوات السابقة، كانت جزءًا من عمليات تاريخية واجتماعية وثقافية لتكوين القومية المصرية الحديثة، في إطار الدولة/ الأمة والسعي للتنظير للتمايز عن الميراث التركي/ العثماني ومحمولاته الثقافية والعرقية والدينية، وإلى قيادة الحركة القومية الدستورية للاستعمار البريطاني حركة التحرر من نير، ومن ثم كان بعض دعاة العامية من المثقفين والمفكرين المصريين، هم من المبشرين والمؤسسين للفكرة والحركة القومية المصرية الحديثة.