حين يسألنى الناس عن مصر هذه الأيام، أقول مصر معظم أهلها تُخَيِّم عليهم الكآبة، فمن آمن بالثورة يراها تحتضر، ومن ارتضى بها وأمل فى نهايتها السريعة لم يَعُد يرى نهاية لهذا النفق، ومن غضب منها وعارضها أدرك أن التاريخ لا يرجع أبدا إلى الخلف. وحين يسألوننى عن رأيى أكاد أشعر بالحرج من قدر الرجاء الذى أشعر به، ورغم أنى أتفهم مخاوفهم وإحباطاتهم، لكنى أرى الحاضر أفضل من الماضى والمستقبل أفضل من الحاضر، وأؤمن أن الشىء الوحيد الذى يفصل بين اليأس والرجاء هو مدى استعدادنا للعمل لسنوات حتى تصير مصر الوطن الذى نرجوه. الفارق الحقيقى هو أننى أعرف أن كل فرد منا يمكنه الآن أن يصنع الفارق، ولم يكن هذا حالنا قبل الثورة. يصف البعض «الشعب» بالجهل والكسل الذى لا يجدى معه إصلاح. وأنظر فأرى شبابا وشابات قد استطاعوا أن يكسروا دائرة القهر، وخرجوا من عباءة أهل تعودوا على القبول، ورجال دين أسهموا فى تغييب العقل النقدى وعزل الإنسان فى دائرة ممارسة مغلقة، ومجتمع كانت بضاعته كلها استهلاكية. هؤلاء الشباب صنعوا وعيهم بأنفسهم، استفادوا من كل مساحة حرية، استخدموا كل المتاح من التقنيات، وأعادوا تجميع فتات الموروث الحضارى المصرى ليصنعوا من أنفسهم نقطة بداية لإنسان مصرى جديد. هؤلاء الشباب قليلو الخبرة يخطئون ويتلعثمون كثيرا، لكنهم يحملون فى داخلهم فرصة حقيقية لمستقبل مصر، وكل ما يحتاجون إليه هو الرعاية والوقت ليتحولوا إلى القادة الذين افتقدناهم لسنوات. لدينا فرصة أن نفسد هذا الجيل ونطرده مثل من سبقوه، ولدينا فرصة أن نحتضنه وأن نجعله ينمو ويتعلم فى وسطنا... ولأن لدينا اختيارا فلدىّ رجاء. أنظر أيضا إلى فئات الشعب «العادى» الأقل بريقا عند المتذمرين، فأرى نتاجا طبيعيا لتربية قائمة على انعدام القانون واهتراء القيم وفشل التعليم والكبت. لكننى أدرك أن الثورة لم تصنع هذا المزيج، بل استلمته موروثا، لا خيار لها فيه، وأن معظم الممارسات التى ظهرت بعد الثورة كانت واقعا مُعاشا فى المجتمع المحلى، من هيئات وجامعات وقرى وعشوائيات وعلاقات زوجية وأندية... وأدرك أن الشعب يمارس الآن بعضا من حريته التى أعاد اكتشافها. ورغم بعض إحباطات الأشهر الأولى فإن هذه الممارسة هى الفرصة الوحيدة لكتابة عقد اجتماعى جديد، يعرف فيه كل فرد حقوقه وواجباته على المجتمع والدولة. إن الوعى بالمسؤولية لا يمكن أن ينمو إلا فى إطار الحرية، ولكن مجرد الحرية لن يؤدى إلى هذا التطور دون عمل جاد فى وسط هؤلاء الأحرار الجدد لخلق حوار حول معنى حريتهم. هناك كثير من التعليم المطلوب، وكثير من حل المشكلات الأساسية على الأرض. لكن العمل مع الأحرار يختلف، لأنهم يشاركون فى إيجاد الحلول وتنفيذها... ولأن لدينا عملا فلدىّ رجاء. يقول الكثيرون أيضا إن الثورة لا قائد لها، وإن جماعاتها تفككت، وإن تيار الإسلام السياسى قد انقلب عليها وأظهر وجهه الحقيقى الرافض للآخر والطامع فى السلطة، وإن شباب الثورة لا يعرفون أى شىء إلا المليونيات ويجيدون الهدم ولا يجيدون البناء. إن الثورة المصرية تشبه طفلا عبقريا، تلمس تميزه والمستقبل الذى ينتظره، لكنك أيضا تدرك -فى شىء من الحسرة- أنه مجرد طفل يجب أن يقضى سنوات نموه الطبيعى قبل أن ينضج، ولا توجد معجزةٌ ما يمكنها أن تختصر هذا النمو من سنوات إلى شهور. لقد بدأت الثورة رائعة، كثورة شعبية بلا زعيم ولا انقلاب عسكرى ولا حلول خارجية سابقة التجهيز، بدأت سلمية واستمرت سلمية فى مجملها. بدأت أو تطورت بائتلاف قوى مختلفة وممثلة لكل التوجهات. كل هذه العوامل هى علامات رجاء لا يُستهان بها. فى الأشهر الأولى أخطأ الجميع إلا فى ما ندر. وأدَّعى أن الجميع قد تعلم دروسا غالية الثمن، وأن الإحباط كان أحيانا هو الشرط الأساسى لمساعدتنا على البحث عن رؤى جديدة نتعامل بها مع الواقع. أتصور أن الكثير من حركات الثورة ستعيد توحدها حول قائد تختاره، لكنها لن تصل إلى هذه النتيجة إلا بعد عدة سقطات، وأن الحركات السياسية ذات المرجعية الدينية سوف يخرج منها رؤية جديدة أكثر اعتدالا وقبولا، لكنها ستفعل ذلك بعد عدة صدمات. أنا على يقين أننا سنتعلم مع كل يوم، ولأننا نتعلم... فلدىّ رجاء. يقول البعض أيضا بأن الحكومة ضعيفة وعاجزة عن إنقاذ الاقتصاد وعودة الأمن، وأن المجلس العسكرى يحكم منفردا، وأن قراراته تعيد تشكيل النظام القديم، وأن الفلول ما زالت فى موقع يسمح لها بالتحكم فى كل شىء، وأن الدول الكبرى ودول المنطقة ما زالت تحاول العبث فى مقدراتنا وإملاء رؤيتها على شعب تراه مثلما كان يراه حكامه السابقون. الحقيقة التى يجب أن نعيها هى أن الأفراد والكيانات والدول الذين استفادوا أو تحالفوا مع نظام يستخدم القهر لا يمكنهم أن يقودوا مسيرة الحرية. هم يرون الحياة من خلال منظار يرى الشعب كطفل بحاجة لولاية، والثائر كمثير للشغب، والمعترض كمؤامرة أو فتنة. إن الحرية لا تُمنَح من سادة يتكرمون بها، ولكنها حق إنسانى أصيل نكتشفه بأنفسنا ونحققه داخليا قبل أن نطالب به الآخرين. ما أقوله لا يعنى أن علينا أن نستبعد كل فرد ودولة تنتمى إلى منظومة القهر، بل علينا أن نتوقف عن انتظار إحسانات لا يملكون أن يمنحوها. إن الشعب هو فقط القادر أن يحرر نفسه ويحرر قاهريه من موروث الزمن البائد. وأقصى ما يمكن أن نطالب به هؤلاء المنتمين إلى منظومة القهر هو أن لا يعطلوا مسيرتنا نحو الحرية وأن يختاروا -بحكمة- الانسحاب من مشهد الصدارة ويتركوا للشعب المصرى تقرير مصيره، والمعقول أن نلتزم نحن فى المقابل بأن نتوقف عن محاولة هدم كل شىء ينتمى للعهد السابق. وعلينا أن نفهم أن الثورة لن تنجح إلا إذا تخطينا مرحلة القصاص إلى مرحلة إعادة التأهيل، وتخطينا مرحلة العنترية إلى مرحلة الحكمة السياسية. إن التغيير المطلوب كله هو من جهتنا، وأما الآخرون فلا ننتظر منهم أى شىء.. ولهذانا الآن، الآن فقط، صار لدينا اختيار، وعمل يمكنه أن يصنع الفارق، وفرصة لنتعلم ونتطور، وحرية من الاعتماد على سادة يمتلكون الحلول... وهذه كلها هى علامات الرجاء.