المسجد هو أكبر منبر إعلامي في مصر، نحن نتحدث عن 140 ألف مسجد تبث خطبها كل جمعة في مكبرات صوت كبيرة تسمعها سيدات البيوت في منازلهن، هذا خلاف الخطبة التي يذيعها الراديو عن طريق إذاعاته المختلفة لراكبي السيارات، والخطبة التي يذيعها التليفزيون وتكون غالبًا لأحد الشيوخ الأعلام في مصر، حتى المسيحيين يتابعون تلك الخطب من المنازل أو حتى عبر الراديو، حتى الوعظ الذي يسمعه المسيحيون في الكنائس فهو أمر مشترك الدعوة إلى سمو الروح عن مطالب الجسد والبعد عن الشهوات والتذكير بالله وبنعيمه للمطيعين والمتطهرين أو عذابه للعاصين والمذنبين هو أمر مشترك، ولكن ازدواج الشخصية في العالم العربي بشكل خاص أصبح كبيرًا، فالكل يسمع الخطبة ويستمع للوعظ ولكنها لا تغادر أذنه إلى جوارحه، حتى أصبح أمرًا سقيمًا عقيمًا. هم يتحدثون عن وضع مثالي وعن غض البصر، في الوقت الذي لا يلبث فيه هؤلاء أن يغادروا حتى يجلسوا على قهوة تثبت شفرتها على إحدى قنوات الأغاني، حيث النساء تتلوى وتتراقص وتتفنن في إظهار كل مفاتنها، ولا تكتفي بالتلوي الجسدي ولكنها تتابعه بالتغنج الصوتي والكل يتابع ويشاهد. نتربع نحن والسعودية علي قمة المتابعة للمواقع الإباحية، مستوى التحرش الجسدي والاغتصاب في أعلى مستوياته في العالم العربي، هذا بخلاف الاغتصاب الذي يبيحه المشايخ مثل مفاخذة الطفلة حتى تطيق، ولا يضمن أحدهم بالطبع صبر الشيخ العجوز حتى تطيق الطفلة أو لا تطيق. أعلى مستوى من الفساد المالي والرشوة والمحسوبية، وتجاوز القانون من رجال القانون، كل هؤلاء يجاورونك في أثناء الوعظ، ويرفعون أيديهم بالدعاء والتبتل في حضرة الواعظ. الوعاظ أيضًا يكذبون وهم يعرضون نصف الحقيقة عن مجتمع مثالي كان موجودًا منذ أربعة عشر قرنًا، يدَّعون أنه نشر العدل والسلام في العالم كله، وأن الدين لم ينتشر بالسيف رغم أن الوقائع تقول، إن كبار الصحابة اقتتلوا صراعًا على السلطة والمال والجاه، وسقط عشرات الآلاف منهم بعض العشرة المبشرين بالجنة، فقد قتل ثلاثة من الخلفاء على أيدي مسلمين، وكذلك قتل طلحة والزبير في موقعة صفين، والباقون لم يفلتوا من أجواء الصراع علي السلطة، سواء سعد بن أبي وقاص أو عبد الرحمن بن عوف، ولم يكن مجتمعًا مثاليًّا بالمرة، ارتبكت فيه كل الموبقات من زنا وسرقة وخيانة ونفاق، حاول الرسول الكريم تهذيب أخلاقهم بشكل نسبي، ما فتئت أن ظهرت القبلية مرة أخرى بقوة بداية من تنصيب أبي بكر، ثم تعمقت في عصر عثمان، وتتابعت لاحقًا وتحول الأمر من خلافة راشدة إلى ملك عضوض، سواء كان هذا الحديث صحيحًا أم من نحل الأطراف المتصارعة، ليعبر عن واقع معاش ومنتقد، والدعوة للاستسلام للخليفة حتى لو فجر وفسق وقتل وظلم ما لم يظهر كفرًا بواحًا كما يدَّعون. لماذا لم يعد الترغيب بالجنة والتخويف بالنار مجديًا؟ ولماذا أصبحنا أكثر الشعوب ازدواجية، فقد احترف المصريون الوعظ، من السهل أن تسمع الوعظ الآن من أحدهم، وأنت تعرف انحرافه الأخلاقي أو المالي أو السلوكي، والآن يمارس المصريون جُلَّهم الوعظ من خلال الواتس آب، بنظام انشرها ولك الأجر، وتحول الواتس إلى أكبر منصة وعظ في مصر والعالم العربي، دون جدوى حقيقية على السلوك على الأرض. لماذا لا يلتحم الوعاظ بالواقع بشكل أكبر ويكونوا أكثر واقعية بعيدًا عن المثالية المدَّعاة، ويحاولوا حل المشكلات الحقيقية التي تعترك الشباب، والمجتمع بشكل عام. لماذا أصبح الوعاظ جزءًا من المشكلة وليسوا جزءًا من الحل، هل أصبح الدين مصدر سلطة ونفوذ ومال؟ أعتقد أن ذلك أصبح حقيقيًّا، فالوعاظ أعظموا من قيمة القرآن وحفظة وتلاوته، وربما يكون ذلك صحيحًا، ولكنه أصبح مصدرًا كبيرًا للاسترزاق الآن، فقد سمعت أرقامًا بعشرات الآلاف لقراءة المقرئين لمدة ساعة في العزاءات، المأذون الذي يأتي لعقد القران يأخذ دون أي حق 10% من قيمة المؤخر، في أكبر عملية نصب ممكن أن تتم، والناس لا حول لها ولا قوة ولا يستطيع أحد أن يعترض، تحت دعاوى أنها ليلة العمر وما شابه ذلك، كأن هذا مبرر لرجل الدين أن يتاجر بالناس ويبتزهم، حتى ساعات تحفيظ القرآن فوجئت أنها فاقت أسعار الفيزكس والكيمستري. هنا نحن نتحدث عن مصدر ارتزاق وسلطة في نفس الوقت، هذا غير المشايخ الكبار الذين وضعوا في لجان شكلية في دول الخليج ليتقاضوا أموالاً بالملايين، ليشتروا ولاءهم الديني ومظلتهم الدينية، وجيل الوسط من المشايخ، يذهبون إلى بعثات في إفريقيا ودول غير ناطقة بالعربية ليتقاضوا آلاف الدولارات، لا يتقاضاها من حصل على الدكتوراه في تخصصه العلمي الصعب. يذهب بعضهم إلي المراكز الإسلامية في أوروبا في شهر رمضان، لقراءة القرآن أو إلقاء الدروس، وعرفت أن اليوم الواحد يتجاوز الألف دولار، ويصل إلى خمسة آلاف وعشرة آلاف دولار في اليوم الواحد، ولا تقولوا إن الدين أصبح مصدر سلطة ونفوذ ومال في نفس الوقت. هل سيتخلى هؤلاء عن مصدر السلطة والنفوذ والمال، ويدعون إلى تجديد الخطاب الديني، الذي ربما يفقدهم هذا الجاه والسلطان والنفوذ؟ كل الرؤساء على مدى العصور يحتاجون إلى المشايخ لتبرير استبدادهم السياسي أو حتى فسادهم المالي، لدعوة الناس إلى الصبر والزهد والطاعة لولي الأمر، ويسوقون في هذا الآيات بليِّ عنقها ويروون الأحاديث المضروبة التي تبيح ذلك. هل نحن قادرون على تغيير فلسفة الوعظ وجعلها تلتحم بالمواطنين، وتحاول حل مشكلاتهم الاجتماعية، بتيسير فرص الزواج، بأن يقوم المسجد بدور الوسيط في عمليات الزواج والدعوة إلى تيسيره وعدم المغالاة فيه، وهل يقوم المسجد بدور الوسيط في عمليات التشغيل بين طالبي الوظائف، وأصحاب الشركات والمصانع؟ هل يقوم بالتدريب إذا لزم الأمر للشباب والفتيات لإعدادهم لسوق العمل؟ هل نحن قادرون على الدعوة إلى الموضوعية لا المثالية، لأن المثالية يتم تجاوزها بعد اعتياد وخز الضمير؟ هل الواعظ قادر على توبيخ الفاسدين والمتجاوزين للقانون خاصة عندما يكونون من رجال القانون؟ وهل هو قادر على توبيخ الفاسدين من الموظفين ودعوتهم إلى تيسير أمور الناس، أم أنهم يخشونهم، ويمارسون نفس دورهم من على منصة أخرى؟ كلها مصالح والمصالح تتصالح، كما يقولون، ولا يجرؤ أحدهم على تجاوز دوره المرسوم من المخرج ولا يجوز له أن يخرج عن النص. هل من الممكن أن نحول منبر الوعظ إلى منصة معرفية، تقدم المعلومة والوعى، لأننا في عصر المعرفة، والمعرفة تساوي المال وتساوي التقدم؟ الأمر لا يحله مقال ولا يحله رأي أحدهم، الأمر يحتاج إلى حلقات نقاشية ممتدة وعملية تطوير دائمة ومستدامة لعملية الوعظ، ولا يجب أن تترك للعشوائية ولا يجب أن تترك للمشايخ وحدهم، فهي عملية لها محاور وجوانب مختلفة ومتعددة، يعجز المشايخ عن إدراكها كاملة.