رئيس ضمان جودة التعليم: الجامعات التكنولوجية ركيزة جديدة فى تنمية المجتمع    إتاحة الاستعلام عن نتيجة امتحان المتقدمين لوظيفة عامل بالأوقاف لعام 2023    قطع المياه عن نجع حمادي.. وشركة المياه توجه رسالة هامة للمواطنين    الحكومة: نرصد ردود فعل المواطنين على رفع سعر الخبز.. ولامسنا تفهما من البعض    «حماس» تصدر بيانًا رسميًا ترد به على خطاب بايدن.. «ننظر بإيجابية»    محامي الشحات: هذه هي الخطوة المقبلة.. ولا صحة لإيقاف اللاعب عن المشاركة مع الأهلي    رونالدو يدخل في نوبة بكاء عقب خسارة كأس الملك| فيديو    أحمد فتوح: تمنيت فوز الاهلي بدوري أبطال أفريقيا من للثأر في السوبر الأفريقي"    هل يصمد نجم برشلونة أمام عروض الدوري السعودي ؟    حسام عبدالمجيد: فرجانى ساسى سبب اسم "ماتيب" وفيريرا الأب الروحى لى    هل الحكم على الشحات في قضية الشيبي ينهي مسيرته الكروية؟.. ناقد رياضي يوضح    محامي الشحات: الاستئناف على الحكم الأسبوع المقبل.. وما يحدث في المستقبل سنفعله أولًا    مصارعة - كيشو غاضبا: لم أحصل على مستحقات الأولمبياد الماضي.. من يرضى بذلك؟    اليوم.. بدء التقديم لرياض الأطفال والصف الأول الابتدائي على مستوى الجمهورية    32 لجنة بكفر الشيخ تستقبل 9 آلاف و948 طالبا وطالبة بالشهادة الثانوية الأزهرية    استمرار الموجة الحارة.. تعرف على درجة الحرارة المتوقعة اليوم السبت    اعرف ترتيب المواد.. جدول امتحانات الشهادة الثانوية الأزهرية    صحة قنا تحذر من تناول سمكة الأرنب السامة    أحمد عبد الوهاب وأحمد غزي يفوزان بجائزة أفضل ممثل مساعد وصاعد عن الحشاشين من إنرجي    دانا حلبي تكشف عن حقيقة زواجها من محمد رجب    الرئيس الأمريكي: إسرائيل تريد ضمان عدم قدرة حماس على تنفيذ أى هجوم آخر    "هالة" تطلب خلع زوجها المدرس: "الكراسة كشفت خيانته مع الجاره"    حدث بالفن| طلاق نيللي كريم وهشام عاشور وبكاء محمود الليثي وحقيقة انفصال وفاء الكيلاني    أبرزهم «إياد نصار وهدى الإتربي».. نجوم الفن يتوافدون على حفل كأس إنرجي للدراما    مراسل القاهرة الإخبارية من خان يونس: الشارع الفلسطينى يراهن على موقف الفصائل    عباس أبو الحسن يرد على رفضه سداد فواتير المستشفى لعلاج مصابة بحادث سيارته    "صحة الإسماعيلية" تختتم دورة تدريبية للتعريف بعلم اقتصاديات الدواء    ثواب عشر ذي الحجة.. صيام وزكاة وأعمال صالحة وأجر من الله    أسعار شرائح الكهرباء 2024.. وموعد وقف العمل بخطة تخفيف الأحمال في مصر    العثور على جثة سائق ببورسعيد    الأمين العام لحلف الناتو: بوتين يهدد فقط    سر تفقد وزير الرى ومحافظ السويس كوبرى السنوسي بعد إزالته    نقيب الإعلاميين: الإعلام المصري شكل فكر ووجدان إمتد تأثيره للبلاد العربية والإفريقية    كيف رفع سفاح التجمع تأثير "الآيس" في أجساد ضحاياه؟    "حجية السنة النبوية" ندوة تثقيفية بنادى النيابة الإدارية    ضبط متهمين اثنين بالتنقيب عن الآثار في سوهاج    «الصحة»: المبادرات الرئاسية قدمت خدماتها ل39 مليون سيدة وفتاة ضمن «100 مليون صحة»    وكيل الصحة بمطروح يتفقد ختام المعسكر الثقافى الرياضى لتلاميذ المدارس    وصايا مهمة من خطيب المسجد النبوي للحجاج والمعتمرين: لا تتبركوا بجدار أو باب ولا منبر ولا محراب    الكنيسة تحتفل بعيد دخول العائلة المقدسة أرض مصر    للحصول على معاش المتوفي.. المفتي: عدم توثيق الأرملة لزواجها الجديد أكل للأموال بالباطل    القاهرة الإخبارية: قوات الاحتلال تقتحم عددا من المدن في الضفة الغربية    «القاهرة الإخبارية»: أصابع الاتهام تشير إلى عرقلة نتنياهو صفقة تبادل المحتجزين    «ديك أو بط أو أرانب».. أحد علماء الأزهر: الأضحية من بهمية الأنعام ولا يمكن أن تكون طيور    الداخلية توجه قافلة مساعدات إنسانية وطبية للأكثر احتياجًا بسوهاج    ارتفاع الطلب على السفر الجوي بنسبة 11% في أبريل    «صحة الشرقية»: رفع درجة الاستعداد القصوى لاستقبال عيد الأضحى    وزير الصحة يستقبل السفير الكوبي لتعزيز سبل التعاون بين البلدين في المجال الصحي    مفتي الجمهورية ينعى والدة وزيرة الثقافة    الأونروا: منع تنفيذ برامج الوكالة الإغاثية يعنى الحكم بالإعدام على الفلسطينيين    الماء والبطاطا.. أبرز الأطعمة التي تساعد على صحة وتقوية النظر    «الهجرة» تعلن توفير صكوك الأضاحي للجاليات المصرية في الخارج    رئيس الوزراء الهنغاري: أوروبا دخلت مرحلة التحضير للحرب مع روسيا    «حق الله في المال» موضوع خطبة الجمعة اليوم    بمناسبة عيد الأضحى.. رئيس جامعة المنوفية يعلن صرف مكافأة 1500 جنيه للعاملين    السيسي من الصين: حريصون على توطين الصناعات والتكنولوجيا وتوفير فرص عمل جديدة    الحوثيون: مقتل 14 في ضربات أمريكية بريطانية على اليمن    أسعار الفراخ اليوم 31 مايو "تاريخية".. وارتفاع قياسي للبانيه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فى الطرق إلى كاندى.. ملجأ أيتام الفيلة وطقس استحمامها د. صبرى حافظ
نشر في التحرير يوم 15 - 02 - 2014

الطريق من كولومبو إلى كاندى جعلنى أشعر أننى فى رحلة بالطريق الزراعى من القاهرة إلى طنطا مثلًا فهذه تقريبًا هى المسافة بين المدينتين
كان محمود سامى البارودى هو أول من ترك كولومبو من العرابيين عام 1888 وانتقل للإقامة فى كاندى بعد زواجه من كريمة يعقوب سامى
الفيلة تنزل إلى النهر الواقع أن تجربة زيارة ملجأ الفيلة تجربة تستحق أن تُرى
كانت حديقة الفندق وباره المشرف على البحر مليئين بالسياح من كل حدب وصوب أغلبهم من الأوروبيين أو الأمريكيين
كان أكثر ما شاقّنى فى «الفندق المواجه لجول» مبناه القديم الذى ذكّرنى بشىء من سميراميس القديم أو قصر ماريوت العتيق
تنبهتُ عند رضاعة بعض صغار الفيلة إلى أن أثداء الفيلة بين ساقيها الأماميتين لا بين الخلفيتين كمعظم ضروع الثدييات الأخرى
المشى على الشاطئ ساعة غروب الشمس متجهًا إلى هذا الفندق الشهير المواجه لمدينة جول كان هو الآخر أمرًا جديرًا بالتأمل
تمر الأيام سريعًا فى تعقب تواريخ العرابيين فى سيلان، والبحث عن آثارهم الدارسة والباقية فيها. وكان لا بد أن تأخذنى عملية تعقب خطواتهم تلك إلى مدينة «كاندى»، التى ظهرت على خريطة إقامتهم منذ أن زارها كل من مترجمهم سليم عطاالله وعلى سالم الذى صحبهم على السفينة، وعادوا لهم بتقرير وافٍ عنها فى الشهر الأول من إقامتهم فى سيلان. لكنهم صرفوا النظر عنها فى البداية، لكن يبدو أن وصف سليم عطاالله لها ترك شيئًا فى نفس محمود سامى البارودى، الذى كان أول من انتقل إليها بعد زواجه. لكنى قررت فى اليوم الأخير لى فى كولومبو وقبل السفر فى صباح اليوم التالى بالسيارة إلى كاندى أن أخرج فى المساء للتمشى على الشاطئ القريب، وصولًا إلى أحد أشهر فنادق كولومبو وأقدمها، وهو الفندق الذى يحمل اسمًا تاريخيًّا شيقًا وغريبًا، وهو «الفندق المواجه لمدينة جول Galle Face Hotel». وجول هذه هى الميناء الكبير الواقع فى أقصى جنوب غربى الجزيرة. وهى مدينة تبعد عن كولومبو 118 كيلومترًا. وهى رابع أكبر المدن فى سيريلانكا بعد كولومبو وكاندى وجفنه فى الشمال. وقد زارها ابن بطوطة فى رحلته الشهيرة وسماها «قالى» عندما كان فى ضيافة ملك جفنه عام 1344، لأن أكثر من ربع سكانها من المسلمين. وكانت «قالى» أو «جول Galle» أو حتى «جال» فى القرن الرابع عشر، وقت زيارته لها أهم موانئ الجزيرة، وكان المسلمون أهم تجارها قبل وصول أى من المستعمرين الأوروبيين إليها، وكان أولهم البرتغاليون فى القرن السادس عشر. وقبل ظهور كولومبو كعاصمة وميناء رئيسى بعد ذلك بقرنين، وبعد الاستعمار الإنجليزى للجزيرة.
ومع أن «الفندق المواجه لجول» فى كولومبو بنى عام 1864 أى بعد «الفندق الشرقى الكبير» بها بربع قرن تقريبًا، والذى تتبعت فيه آثار عرابى، فإنه تفوق عليه شهرة، على مر الزمن. لأنه كان أكثر منه فخامة، وكان بعيدًا عن ضجيج الميناء وعجيجه الذى تزايد مع الأيام، ومع التوسع التدريجى فى الميناء كى يستقبل سفنًا أكبر وحاويات بضائع عملاقة. مما جنى على موقع «الفندق الشرقى الكبير»، الذى كان بالقطع أهم فنادق المدينة فى زمن العرابيين، وجعله يتراجع مع الزمن عما كان عليه من تميز وقت بنائه، بسبب تكأكؤ مخازن البضائع من حوله. بعد بناء رصيف كبير للبضائع فى الميناء، وبعد أن فقدت السفينة دورها كوسيلة أساسية للسفر، وانتزعته منها الطائرة فى زمن اكتسبت فيه السرعة دورًا كبيرًا. لكن «الفندق المواجه لجول»، الذى يبعد عن الميناء أكثر من كيلومترين ظل فى منأى عما أصاب منطقة الميناء من تدهور. كما أنه حافظ على فخامته مع الأيام لتميز وضعه على الشاطئ فى خليج رملى ضحل هادئ فسيح. تمد فيه حديقة الفندق الواسعة لسانها طويلًا فى قلب الماء، وقد رصت على جانبيه مقاعد و«شيزلونجات» طويلة مريحة، تظللها شماسى البحر العملاقة، كى يسترخى على وسائدها النزلاء وهم يستمتعون بنسيم البحر، أقصد المحيط الهندى. يعبون الجعة، أو يرتشفون النبيذ، أو يتناولون عصائر الفواكه الاستوائية المتميزة.
وقد قررت أن أزور هذا الفندق لشرب شىء فيه والتعرف عليه، ثم البحث عن مكان آخر لتناول العشاء. فقد قرأت شيئًا عن تاريخه فى الأدلة السياحية التى تشيد بعراقته، وتحكى عمن أقام فيه من الملوك أو المشاهير. كما قرأت ما كتبه عنه أنيس منصور فى كتابه الشهير (حول العالم فى 200 يوم)، وأنه حينما قدم له موظف الفندق كشف الحساب بعد إقامته فيه لأيام «رقع بالصوت» لارتفاع أسعاره، (كان سعر الغرفة به وقت رحلته ستة جنيهات، ويبدأ الآن من 150 دولارًا)، وكان يتصور أنها كأسعار الفنادق الرخيصة التى تركها من ورائه فى الهند، فوجد أنها عشرة أضعاف ما كان يدفعه هناك. هكذا قالت له سيلان، وبلغة الصدمة المباشرة أنها تتصور نفسها أرقى من الهند وأفضل. فأهلها أحفاد أمير هندى، وليسوا أبناء عامة الهنود ناهيك عن فئاتهم الدنيا وطبقاتهم الوضيعة.
والواقع أننى شغوف بزيارة تلك الفنادق العريقة الفخمة منذ سهرتى الأولى فى إحداها بدعوة من الصديق البديع الراحل غالب هلسا فى فندق سميراميس القديم قبل هدمه، وبناء هذا الفندق الحديث مكانه، ومشربه الشهير Night and Day الذى سهرت فيه معه، وهى سهرة لا تزال تفاصيلها محفورة فى الذاكرة، رغم مرور نصف قرن عليها. وعلى الرغم من أنه تبعتها زيارات لفنادق كثيرة فخمة ومن نفس الطراز العريق كفندق المأمونية الشهير فى مراكش بحدائقه الغناء، حيث جلست فى المكان الذى كان يرتشف فيه تشرشل كؤوسه وهو يدخن سيجاره المشهور، واستمعت إلى عازف البيانو فى باره وهو يعزف على نفس البيانو الذى عزف عليه الموسيقى الزنجى الأشهر لوى أرمسترونج ألحانه الشهيرة. أو فندق البارون فى حلب حيث قضيت فيه أيامى القليلة به فى الغرفة التى كانت تؤثر أجثا كريستى، كاتبة الروايات البوليسية المشهورة، الإقامة فيها.
أقول إننى أحب تلك الفنادق القديمة الجميلة، لا للإقامة فيها، فهذا أمر لا تطيقه ميزانيتى المحدودة فى أغلب الأحيان، إنما للتعرف على ملامحها كسائح، يتعرف عليها كجزء أساسى من خبرته بالمدينة. ويكفى أن أشرب شيئًا فيها، حتى لو دفعت فيه أضعاف ما أدفعه فى نفس المشروب فى مكان آخر فى نفس المدينة. إذ تنطق عراقة تلك الفنادق بالتواريخ القديمة، وتدعوك لقراءتها باعتبارها ملمحًا أساسيًّا من ملامح المدينة يحتفظ بكثير من أسرارها، والتعامل معها بطريقة مغايرة لذلك التعامل العملى البراجماتى مع الفنادق الحديثة. فكل شىء فيها علامة مثقلة بالتواريخ مترعة بالمعانى، وبما تنطوى عليه العلامة من دلالات. لأن لكل جزء فيها ذاكرته التاريخية التى يحتفظ بها، فلدى فضاءاتها القدرة على إعادة زوارها للماضى والحنين إليه. كما يحتفظ المبنى القديم فى فندق «ماريوت» فى القاهرة مثلًا بما دار فى أبهائه وبين جدرانه مع الإمبراطورة أوجينى، سواء منه ما كان حقيقيًّا أو ما كان أسطوريًّا، وما ورد على تلك الجدران بعدها من وقائع وأحداث. وتحكى فخامتها وما تبقى فى أروقتها من آثار، وما خلفته فيها الأحداث من أطلال، حكايات تستحق أن تعرف، وأن ينصت الزائر لها ويستعيد تفاصيلها. فلحظات السكن (والسكن هنا من السكينة) فى تلك الفنادق الرحبة، ولو لاحتساء مشروب بتؤدة ودون تعجل، تستحق أن تُعاش. لأن فضاءات تلك الفنادق تردك إلى زمن الإيقاع البطىء والاستمتاع بالحياة الرخية على مهل، والتخلى عن اللهاث المجنون لزمن السرعة الحديث الذى تدُعّ فضاءاته القبيحة الإنسان، وتدفعه إلى الحياة بلا ترو أو متعة.
لكن المشى على الشاطئ ساعة غروب الشمس متجهًا إلى هذا الفندق الشهير المواجه لمدينة جول، كان هو الآخر أمرًا جديرًا بالتأمل. فقد وجدت الشاطئ مزدحمًا بالناس وهم يسيرون عليه أو يتأملون غروب الشمس وسقوط قرصها المتوهج فى ماء المحيط الهندى. يعج بكثير من العربات الصغيرة التى تبيع المشروبات الغازية المختلفة، والكثير من المأكولات الرخيصة من شرائح الموز المقلية كالشيبسى، أو ثمار جوز الهند السيلانية، أو أقراص أو لقيمات صغيرة مصنوعة من الأرز أو من عجين آخر ترصعها أسماك «البساريا» الصغيرة أو الجمبرى وتباع بثمن زهيد. وكان الفقراء يستمتعون بشاطئ المحيط الممتد لكيلومترات على طبيعته. فلم يتم الاستيلاء عليه كما تم الاستيلاء على شواطئ البحر فى الإسكندرية أو حتى شواطئ النيل فى القاهرة وتحويلها إلى كازينوهات فجة. كان الشاطئ فضاءً حرًا يلتقى فيه العشاق الفقراء، ويستمتعون معًا بما يباع عليه من مأكولات ومشروبات وبأقل التكاليف. هكذا كان كورنيش النيل فى القاهرة، وكورنيش البحر فى الإسكندرية، فى شبابى، وقبل زمن الانفتاح وسعار النهب والثراء السهل: نهب المال العام والفضاء العام كذلك.
وكان أكثر ما شاقنى فى «الفندق المواجه لجول» مبناه القديم الذى ذكرنى بشىء من سميراميس القديم أو قصر ماريوت العتيق، وحديقته الواسعة التى تشبه حديقة ماريوت، لكنها تطل على المحيط الهندى هذه المرة، وتمد لسانها العريض طويلًا فيه، بصورة تتيح فى المساء وضع أكبر قدر من الموائد المطلة على الماء مباشرة. وكانت حديقة الفندق وباره المشرف على البحر مليئة بالسياح من كل حدب وصوب، أغلبهم من الأوروبيين أو الأمريكيين، ولا تجد بينهم من السيرلانكيين إلا الخدم الذين يقدمون للزبائن مشروباتهم. وكان مبنى الفندق الرئيسى مليئًا بالعاديات القديمة من صناديق سفر أثرية ضخمة، وهى ما تسمى بالإنجليزية «Trunk»، تعود إلى زمن الاستعمار القديم والسفر لأسابيع فى البواخر التى تمخر عباب المحيطات، وتقام على ظهورها أمسيات الرقص الذى يستلزم الكثير من ثياب السهرة التى كانت تضمها تلك الصناديق. هذا فضلًا عن كثير من الأوانى النحاسية القديمة التى لم يعد لها استعمال الآن، لكنها أصبحت من آثار ماضٍ عريق. وبعد أن تناولت فى هذا الفندق الجميل مشروبًا على مهل، عدت من جديد إلى الشاطئ مشيًّا إلى المستشفى القديم الذى كان فى حقيقة الأمير ديرًا هولنديًّا ومستشفى عتيقًا فى العصر الاستعمارى، لكنه تحول الآن إلى مجموعة من مطاعم السمك والكابوريا المتعددة، فنحن فى جزيرة وفى عاصمتها المطلة على المحيط، وليس أفضل من أكل السمك فى مثل تلك الأماكن. فى الصباح، وبعد تناول الإفطار فى مطعم «فندق الشرق الكبير» المطل على الميناء، وصل السائق الذى أقنعنى باستئجاره مع سيارته للسفر إلى كاندى والتجول بعدها فى عدد من مدن الجزيرة ومناطقها السياحية. بدلا من السفر إليها بالقطار كما سافر إليها به محمود سامى البارودى فى أغلب الظن. وكان محمود سامى البارودى هو أول من ترك كولومبو من العرابيين عام 1888 وانتقل للإقامة فى كاندى بعد زواجه من كريمة يعقوب سامى. وسوف أتتبع آثاره وحكايته فيها بعد وصولى لها، خصوصًا أن بقية العرابيين بمن فيهم عرابى نفسه لحقوا به بعد ذلك، كما أنها هى المدينة التى تضم متحف عرابى الشهير فى الجزيرة، وهو مقصدى الأول من زيارتها. وكان السائق الذى شعرت أنه «اصطادنى» من المطار ماهرًا فى إقناعى بفضائل استئجار سيارته على السفر إليها بالقطار، لأن السفر بالسيارة سيتيح لنا التوقف فى ملجأ يتامى الأفيال، وهو أمر استغربت تسميته والاستغراب من أدوات التشويق السياحية، وفى حدائق القرفة التى يُعد اسمها نفسه من الغرائب أو الغرائبيات. على العكس من السفر بالقطار الذى سينقلنى بالقطع من مدينة إلى أخرى، دون معرفة ما بينهما.
ويبدو أنه وهو يسعى لتوفير عمل مضمون لنفسه لعدة أيام، قد أدرك أنه يعزف على وتر حساس لدى، فواصل العزف حتى أقنعنى، وكان الإلحاح أو اللجاجة، كما سأكتشف خلال الأيام الخمسة التى صحبته أو صحبنى فيها من أبرز صفاته. لأننى أحب السفر بالسيارة، خصوصًا حينما استكشف جغرافيات جديدة وأماكن بكرًا. لأن السفر بالسيارة لا يقربك بشكل ملموس من تلك الجغرافيات الجديدة بكل ما فيها من تضاريس بشرية وطبيعية دقيقة فحسب، لكنه يتيح لك أيضًا التوقف حينما تشاء وحيثما تحب لاستقصاء بعض ما تراه أو تمر به من تفاصيل، والاستمرار وقتما تريد، وفضلًا عن هذا كله كان الأمر رخيصًا نسبيًّا. لأن سعر استئجاره هو (كدليل سياحى حىّ يجيد الإنجليزية ونموذج لقطاع من أهل الجزيرة) وسيارته الهونداى مكيفة الهواء كان خمسين دولارًا فى اليوم، وهو ثلث الإقامة لليلة واحدة فى «الفندق المواجه لجول» ونصفها فى «فندق الشرق الكبير».
وقد جاء السائق فى الصباح نشيطًا و«متقمشًا» فأحسست أنه يحتفى بعمله ويقدره. وأخذت السيارة تشق زحام مدينة كولومبو وفوضاها، وتزاحم نوعين مختلفين من أوتوبيسات النقل العام، عرفت منه أن أولهما ما زال رخيصًا، فهو من مخلفات زمن التحرر والاشتراكية القديم، ولذلك كان مزدحمًا، بينما كان الثانى، الذى لا يختلف عنه كثيرًا إلا فى اللون، لكن أسعاره أضعاف الأول أقل ازدحامًا، لأنه من نتاج زمن الخصخصة التى تدور على قدم وساق فى سيريلانكا منذ عقد من الزمان. وقد أحسست من لهجته وطريقة شرحه لما جرى أن ثمة حنينًا مكبوتًا لهذا الزمن القديم، الذى يلقى كثير من السيرلانكيين الذين التقيت بهم اللائمة فى تبخره دونما رجعة على الحرب التى شنها نمور التامل على بلادهم، واستنزفت الكثير من مواردهم. وما أن تركنا شوارع المدينة المزدحمة خلفنا وبلغنا الطريق العام أو الطريق الزراعى الذى تنتشر القرى الصغيرة على جانبيه حتى حسبت أننى فى رحلة بالطريق الزراعى من القاهرة إلى طنطا مثلا، فهذه تقريبًا هى المسافة بين كولومبو وكاندى.
وإن كان الطريق إلى كاندى أضيق كثيرًا من طريق مصر الإسكندرية الزراعى، فهو حارة واحدة فى كل اتجاه. تستخدمها السيارات والشاحنات والتكاتك والعربات التى تجرها البغال وركاب الدراجات العادية منها والبخارية، وحتى العربات الصغيرة التى يدفعها البشر وراكبو الحمير، فى كرنفال عالم ثالثى عجيب يضم كل أنواع المواصلات. لكن الفارق الأساسى كان فى طبيعة المزروعات التى تسيطر عليها أشجار ونباتات استوائية غنية بخضرتها. من غابات أشجار جوز الهند السامقة، إلى أشجار الفواكه الاستوائية من الأناناس والدورى والمانجوسين والرامبوتان وغيرها من الفواكه الغريبة علينا، وحتى بساتين الموز التى عرفت أن فى الجزيرة أكثر من ثلاثين نوعًا منه، لكل نوع منها اسمه ومذاقه، لكن أفضلها وأغلاها ثمنًا هو الموز الأحمر الذى توقفنا على الطريق فى مدينة كيجالا «Kegalle» واشترينا كيلو منه (وكان ثمنه ما يعادل عشرة جنيهات مصرية)، واكتشفت بحق أنه أفضل أنواع الموز الذى أكلته، فضلًا عن أنه كما أكد لى السائق ليس به أى كوليسترول.
وبعد أكثر من ساعة فى هذا الطريق، وهى غير الساعة التى احتجناها للخروج من زحام مدينة كولومبو، بلغنا قرية «Pinnawale» التى يقع فيها ملجأ يتامى الفيلة «Pinnewela Elephant Orphanage»، وهو مكان شاسع من الأحراش الطبيعية التى تمتد لعشرات الأفدنة. تعمرها الأفيال التى تمرح فيها بحرية، وإن كانت أقدام بعضها مشدودة لسلاسل طويلة لا تسمح لها بالوصول إلى الطرق التى يتجول فيها الزوار بالقرب من الفيلة. والواقع أننى لم أرَ فى حياتى هذا العدد الضخم من الفيلة فى مكان واحد. قطعان منها يضم كل قطيع أكثر من مئة فيل من مختلف الأحجام والأعمار، من صغار الفيلة التى لا تزال ترضع من أثداء أمهاتها، إلى كبارها وعجائزها التى لا تقوى على ملاحقة القطيع. وقد تنبهت عند رضاعة بعض صغار الفيلة إلى أن أثداء الفيلة بين ساقيها الأماميين، قل ذراعيها كالبشر، وليس بين الخلفيين كمعظم ضروع الثدييات الأخرى.
والواقع أن تجربة زيارة ملجأ الفيلة تجربة تستحق أن تُرى، ليس فقط لأنها تكشف لنا عن استئناس هذا الحيوان الضخم، والطرائق المختلفة لتدريبه على الكثير من المهارات، وكيف يمكن التعامل معه، لكن أيضًا لأنها تتيح لمن لم يشاهد قطعانًا كبيرة من الأفيال معًا من قبل، مثلى، أن يستمتع بمشاهدتها على طبيعتها. لأن المكان يحافظ على موئل الأفيال الطبيعى ويتيح لها مساحات شاسعة فيه كى تتصرف بحرية وكأنها فى الغابة، أو بالأحرى فى محمية طبيعية خاصة بها. بينما يوفر أيضًا، كالأماكن السياحية وحدائق الترفيه المختلفة، الفرصة للتعامل مع صغارها على حده، وهو الأمر الذى يعشقه الأطفال وهم يلاعبونها وتستجيب لهم، وتأخذ الفواكه منهم بأطراف خراطيمها التى تكتشف مدى مهارتها فى التقام كل شىء مهما كان كبيرًا أو صغيرًا. أو حتى ركوب بعضها أو إطعامه. لكن ذروة هذه التجربة، التى نصحنا أكثر من دليل سياحى بالانتظار حتى الثانية بعد الظهر من أجل مشاهدتها، فهو طقس أخذ الأفيال إلى الاستحمام فى النهر المجاور مرة كل يوم. فلم أشاهد فى حياتى من قبل هذا العدد الكبير من الأفيال معًا. لا فى الواقع ولا حتى فى الأفلام السينمائية أو الوثائقية. وهى تحث الخطى صوب النهر فرحة وكأنها على موعد مع المتعة فى الماء. يحف بموكبها إلى النهر الذى لا يبعد عن ملجأ يتامى الفيلة غير مئتى متر الزوار، بينما تحث الفيلة الخطى وكأنها على موعد مع البهجة. وهى حقًا كذلك، فما أن تراها وهى تلعب فى الماء، ويملأ بعضها خراطيمه منه ويرشها على الآخرين حتى تحبها، وتشعر أنها على قدر لا بأس به من الذكاء الاجتماعى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.