رغم قسوتها يحترفها الأطفال.. صناعة الأقفاص حرفة عتيقة مازال صداها مدويا في أوساط تجارة الخضروات والفواكه، يبدأ أصابع حرفيي قرية العجميين بالفيوم في تشكيل أعوادها وقوائمها، لتلف بعدها أنحاء الجمهورية. وتعتبر محافظة الفيوم، من أكثر وأشهر محافظات مصر في صناعة "الأقفاص"، بعدما تراجعت منافستها دمياط، عن مركزها في هذه الحرفة حتى توقفت تماما حاليا، لتصبح المحافظة الجنوبية هي الوحيدة التي تصنع الأقفاص وتبيعها لتجار الفواكهة والخضروات، وحتى الدواجن في باقي أنحاء مصر. وتشتهر قرية "العجميين" التابعة لمركز أبشواي تحديدًا، بصناعة الأقفاص الخشبية، حيث لا يخلو منزل من منازل القرية منها إلا ويعمل فيه كبير أو صغير في هذه الحرفة، فما أن تطئ قدمك مدخل القرية إلا وتقع عينيك على أحواش كبيرة وواسعة على جانبيك تمتلأ بالأقفاص التي تم تصنيعها، وأكوام من جريد النخل، وبعض "العشش" التي يجلس بداخلها من 3 إلى 5 أشخاص يقومون بتصنيع الأقفاص، فيما تجد الأطفال يقومون بتلوين الأقفاص أو ربطها بالأسلاك. يجلس مصطفى حمدان الذي يبلغ من العمر 25 عامًا، بداخل أحد تلك "العشش" وفي يده عدة أدوات يستخدمها في حرفته منها "ساطور" لتقطيع الأخشاب، و"ماسورة حديدية للتخريم" و"قرمة" من الخشب أمامه يضع فوقها القطع الخشبية لتسويتها وتقطيعها وتخريمها. وبينما يقوم مصطفى بتقطيع الجريد، يحكي ل"التحرير" أنه بدأ العمل في هذه الحرفة منذ عمر السادسة، وتوارثها عن أبيه وجده اللذين ظلا يعملان بها حتى سن السبعين. ويحدثنا الشاب وقد بدا عليه التعب والإرهاق من تقطيع وتقليم الأخشاب، عن سبب تمسكه بهذه الحرفة قائلًا: "لو فيه شغل تاني كنا سيبناها لكن مفيش والأسعار كل يوم بترتفع ولازم نشتغل عشان ناكل، حتى جريد النخل بعد ما كان ال1000 جريدة ب400 جنيه أصبحت ب1200 جنيه، والتاجر يقول الأسعار ارتفعت. حمدان يخبرنا أنّهم يعملون منذ الخامسة فجرًا وحتى الثانية عشر منتصف الليل، ولدى سؤاله عن صعوبات عمله - يبسط قدميه ويقوم بتخريم أعواد الجريد، وتقليم الأعواد الأخرى بدقة عالية، في مشهد سريع جدًا - يقول: "عيب الشغلانة دي إن مشاكلها كتير أوي، من أول إنك بتشتغل أكثر من 18 ساعة في اليوم، والعائد المادي منها قليل يا دوب تاكل وتعيش منها، لكن مش هتقدر توفر فلوس عشان تتجوز أو تجوز أختك، ده غير إنها خطر جدًا لأنك ممكن تقطع إيدك أو رجلك وأنت بتقطع الجريد، ده غير آلام الضهر والعظام بسبب القعدة والحركة السريعة طول النهار". وسألناه عن مدى انتشار الأقفاص البلاستيكية البديلة لصناعته، أسرع مصطفى قائلا إنّ تجار الفاكهة والخضروات يفضلون الأقفاص الخشبية أكثر من البلاستيك، لأنها تتحمل الحرارة والبرودة ولا تضر الفاكهة بعكس البلاستيك الذي يسخن جدًا في الحر فيتسبب في إفساد الفاكهة والخضر إذا تم نقلها إلى المحافظات الأخرى أو حتى تصديرها، بالإضافة إلى رخص سعرها مقابل أسعار الأقفاص البلاستيكية، كما أنها يمكن إصلاحها بسهولة في حال تفككها. ويؤكد حمدان أنّهم يصنعون مئات الأقفاص يوميًا، ويتم تسليمها للتجار مساء كل يوم، بسعر يتراوح بين " 8 إلى 10 جنيهات" حسب الحجم، موضحًا أنّ البيع ينتعش أكثر خلال موسم "الطماطم"، لأنها تكون كثيرة وتحتاج إلى أقفاص كثيرة. وعن مراحل تصنيع "الأقفاص"، يُبين حمدان أنّهم يقومون بتقطيع الجريد وتخريمه، ثم تركيبه بشكل مرتب لا يختلف عود عن الآخر، وإلا فسد "القفص" ويعاد تصنيعه من جديد، وهنا ينتهي من تجهيز القفص، ثم يخرجه في "حوش" أمام "العشة" للأطفال ليقوموا بربطه بأسلاك حديديه رفيعة جدًا، ثم يأخذها مجموعة أخرى من الأطفال، ويقومون بتلوينها بألوان معينة ثم تترك في الشس لتجف، وبعد ذلك يتم رصها في شكل أنيق في منطقة مخصصة لرصها تشبه المعرض. لم يقتصر أهالي القرية على صناعة "الأقفاص" فقط، بل برعوا في صناعة الكراسي والمناضد والمراجيح بأحجام وأشكال مختلفة، فتستخدم إمّا في حدائق الفلل، أو في البلكونات، أو في الحدائق المفتوحة، أو بعض الكافيهات والمقاهي. صناعة الكراسي والمناضد والمراجيح من الجريد، لها أشخاص محددون بالقرية يعملون بها لأنها أصعب من تصنيع "الأقفاص" وتحتاج إلى كميات أكبر من الجريد، ووقت أطول، ويتراوح سعر الكرسي ما بين "20 إلى 30 جنيهًا" بحسب قول حمدان، الذي تابع: "على رأي المثل إدي العيش لخبازه، وأنا من صغري اتعلمت أعمل الأقفاص بس متعلمتش أعمل الكراسي والترابيزات". وأمام "العشة" يجلس "أحمد" الذي لم يتجاوز "التاسعة" من عمره وأمامه عشرات الأقفاص، وبحواره عدد كبير من الأسلاك الحديدة الرفيعة، ويمسك القفص ويقوم بربطه بالأسلاك ثم يضعه بجانبه ويربط الواحد تلو الآخر وذلك مقابل 15 جنيها يوميًا، ولاحظنا أيضا عبدالرحمن الذي لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره وهو يقوم بنقل الأقفاص ورصها فوق بعضها ثم يقوم بتلوينها وتركها بالشمس لتجف قبل بيعها مقابل 15 جنيها أيضًا يوميًا. وقبل انتهاء رحلتنا بقرية العجميين طالب الشاب مصطفى حمدان المسئولين بالاهتمام بأصحاب الحرف خاصة التي يعملون بها، متمنيا توفير معاش لهم لأنهم بعد سن السبعين يجلسون في منازلهم دون دخل، وفقا لتعبيره، بالإضافة مطالبته أيضا بتوفير الرعاية الطبية لهم، لأنهم ليس من ضمن مشمولي التأمين الصحي