الحكاية كانت منذ أربعة عشر عاماً وبالتحديد في يونيو 1999 بعدما إنتهت إمتحانات الثانوية العامة، وكنت وقتها أتمنى أن أكون ضابط شرطة فقط لأني كنت أحب صديقاً لخال والدتي الأصغر وكان وقتها لواء شرطة في غاية من الأدب والأخلاق وخفة الظل والتواضع، وقتها كان لم يتجاوز عمري السابعة عشر وكنت أظن أن هذه هي السمة الغالبة لرجال الشرطة، لكني علمت بعد ذلك أنه حالة نادرة لا تتكرر كثيراً. كان والدي الذي يعيش خارج مصر وقتها مرحباً بالأمر وقرر أن يصطحبني إلى أكاديمية الشرطة التي كانت موجودة في العباسية وقتها وإشترينا ملف التقديم وفي طريق العودة قال لي أبي «والله لن أدفع لك مليماً واحداً بعد ذلك من دون إيصال إستلام»، لم أفهم ماذا يقصد فكنت وقتها أقرأ أوراق الملف الكثيرة جداً والخيال ذهب بي إلى أن أكون كهذا اللواء الجميل. ذهبت أنا ووالدي إلى خال والدتي لأبشره بأني قد سحبت الملف وأريد أن أعلم من صديقه كيف ستكون الإختبارات كي أستعد إليها.. إتصل بصديقه ليخبره بالأمر، وبعد أن وضع السماعة سأل خالي والدي سؤالاً واحداً عبارة عن كلمة واحدة «هتدفع؟» لم يستغرق والدي وقتاً حتى أجابه «إسأله- في إشارة لي- انا حالف أني لن أدفع مليماً بدون إيصال». ما حدث الخميس الماضي من إقتحام «المركز المصري للحقوق الإقتصادية والإجتماعية» والتي كتبت تفاصيل الإعتداء ضباط الأمن الوطني أمس على المركز وإحتجاز المحامين وضربهم.. بل وضرب أحد ضباط قسم عابدين عندما اعترض على هذا الضرب في مقالي «فضيحة في شارع طلعت حرب».. ورفض وزارة الداخلية التعليق عما حدث دون، يوضح مفاهيم جديدة على أداء رجال الشرطة قد تربوا عليها في خلال الثلاثين عاماً الأخيرة، فتتطور الأداء الأمني لرجال الشرطة من حماة الشعب والمدافعين عن الحق.. إلى حماة النظام والمدافعين عن الفساد والمفسدين.. فبطش أجهزة الأمن بالمعارضين من شتى الأطياف والتنكيل بأسرهم وذويهم والاستبداد الوظيفي الذي مارسه رجال الشرطة، وتركهم المجال مفتوحا للصوص والمفسدين والمجرمين يمرحون في البلاد كيف ما شاءوا، في حين التركيز كل التركيز على مراقبة المساجد والتصنت على رموز المعارضة، وعقدهم الصفقات المشينة مع البلطجية والشبيحة للاستعانة بهم في الانتخابات.. حيث قد أوسع نظام مبارك من صلاحياتهم لدرجة جعلتهم فوق القانون والمساءلة، وجعل الأنف الأمني مدسوسا في كل شئون الحياة اليومية في مصر، وكلمة الأمن هي الكلمة الفاصلة في اتخاذ معظم قرارات الشأن المصري، وذلك في ظل دعم سياسي غير محدود من مبارك الذي شعر بالامتنان من نجاح العادلي وزبانيته في القضاء على تهديدات المعارضة الإسلامية، والحفاظ على كرسي السلطة بلا خصوم سياسيين، وهذا التوسيع في الصلاحيات والتكبير في السلطات أثر ذلك على عقلية الضابط المصري، وجعله يشعر حقيقة لا ادعاء أنه فوق الجميع، وأنه من أسياد البلد وغيره هم العبيد الذين ليس لهم إلا قطع اليد لو طالت على أسيادهم.. وكل هذا لم يكن دون مقابل، فالحقيقة كان النظام عادلاً مع هؤلاء الحراس.. حراس السلطة والسلاطين.. الفساد والمفسدين.. الإستبداد والمستبدين.. فقد أعطاهم كل الصلاحيات المطلقة كي يستعبدوا المواطنين.. فالضابط المصري تغيرت عقليته بصورة كبيرة وامتد هذا التغير حتى طال المناهج الدراسية التي تدرس لطلاب كلية الشرطة، وأصبح طالب كلية الشرطة يتعامل مع جيرانه وأصحابه على أنه أعلى وأكبر وأهم منهم، حتى أصبح ضابط الشرطة في العقل الجمعي المصري رمزا للطغيان والتكبر والاستعلاء والسلطة المطلقة.. وكان كل ضابط شرطة في نظر الشعب بمثابة «مبارك صغير» في جبروته وتكبره وسلطاته الواسعة، وتنادى الشعب المصري بأجندة خاصة مفاداها بأن لا تصاهر ضابطا ولا تجاوره، لأنك حتما ستكتوي بناره. عندما قامت ثورة 25 يناير انفجرت براكين الغضب ضد الشرطة، خاصة بعد انتصار الثورة، مما باعد الهوة وعمق الفرقة بين الشعب والشرطة .. وأغلب ضباط الداخلية إن لم يكن جميعهم يشعرون بالمرارة والأسى على رحيل مبارك والعادلي، فهم يعلمون جيدا أن معظم الشعب يكرههم وهم يتخوفون من انتقام الشعب أو انتقاصه لهم.. فهم يرفضون بشدة أي نظام جديد يجعلهم في خدمة الشعب بعد أن كانوا أسياده، يرفضون نظاما يجعلهم سواسية مع باقي الشعب المصري.. لذلك كانوا مهيأين تماماً لكي يكونوا عصاة في يد نظام ما بعد 30 يونيو.. فهم كالأسماك المفترسة لا يعيشون إلا في مياة نظام فاسد. تغيير الشخصيات والأسماء شيء هين بسيط، ولكن تغيير الأفكار والعقليات والسلوكيات أمر شديد الصعوبة بل مستحيل مع هؤلاء الذين تنفسوا العظمة والألوهية على المواطنين.. فمن إعتاد أن يكون دائماً إله لا يمكن أن يقبل بكونه مجرد عبد.. تجدهم الأن لا مانع لديهم من أن يستخدمهم النظام الجديد، بل إنهم يطالبونه بإعتطاء الصلاحيات لقهر من كل يقف في مواجهتهم أملاً في أن يُرهب ويُردع ما تبقى من الشعب صامداً ضدهم، وتعود لهم ما يسموها هم هيبة.. ونسميها نحن سطوة.. وبات واضحاً أنه لن تصلح معهم ما تسمى هيكلة للشرطة.. يجب بتر كل قيادة تربت في كنف السلطة.. فهؤلاء لا تنتظروا منهم خيراً ولا تحاولوا تغيير عقيدتهم ولا تصدقوا كذبهم.. فهم يتنفسوا الفساد كما حموه، والإستبداد كما مارسوه، وظلم العباد كما إقترفوه .. فمن كان منهم صادقاً مع نفسه طلب التقاعد، ومن كان منهم يرفض عقيدة الغالبية إنتقل إلى الأعمال الخدمية.. أما من هم في الأمن الوطني مرضى نفسيين. خرجنا من منزل خال والدتي بعد أن تحطمت أمالي وأحلامي في أن أكون ضابط شرطة على صخرة اليمين الذي حلفه أبي، الذي أخذ مني فترة ليست بالقصيرة كي أتفهمه، ولا أعلم إن كنت اليوم ضابط شرطة وبالتأكيد كنت سأكون من كلاب الحاكم كمن أكتب عنهم هذه الكلمات لأني كنت سأتربى في نظام مبارك وحبيب العادلي وكنت حتماً سأسير على منهاج الشرطة ولن أستطيع أن أن أرى تصرفاتي وسلوكي وأحكم عليها كما يراها ويحكم عليها ويقيمها غيري ممن يتعاملون معي. لا أعتقد أن أكون بتقييمي هذا متجنياً على ضباط الشرطة كنوع من الحقد والغيرة لأني لم أستطع أن أكون ضابطاً بسبب اليمين الذي حلفه أبي.. لأن الكثيرين ممن لم يتمنوا أن يكونوا ضباطاً يوماً يرون ضباط الشرطة الأن أبشع مما أتخيل.