أى تيار سياسى فى العالم عبارة عن مركز. هؤلاء هم الأعضاء النشطون. حولهم جماهير منتسبون، يدفعون من أموالهم ولو قدرًا يسيرًا كل شهر للمساهمة فى تمويل الحزب. حولهم دائرة من المتعاطفين، الذين يصوّتون تقليديًّا لهذا الحزب. وحولهم دائرة من المتأرجحين، الذين قد يصوتون لهذا الحزب أو غيره. الكل لديهم سواء، لكنهم -على الأقل- لا يمانعون فى التصويت له. ينجح التيار السياسى إن استطاع إقناع كل هذه الدوائر بنفسه وبمنهجه. ويفشل، بدرجات، حسب الدوائر التى يفقدها. من الخارج إلى الداخل. يبدأ بفقد المتأرجحين ثم المتعاطفين ثم الممولين، وقد يصل إلى فقد نشطاء الحزب نفسه. ما الذى يدفع الحزب إلى تحسين أدائه حتى لا يهوى بهذه الدرجة؟ لا، مش الأخلاق، مش الوعظ، مش الإنسانية، مش المبادئ، لأن كل دى عبارات نسبية، تختلف تفسيراتها من تيار للتانى. ما يدفعه إلى تحسين أدائه هو «السعى إلى السلطة». لأن تحسين النتائج، وإقناع الجمهور، ضرورة لنجاح حزب أو تيار فى مسعاه إلى التفوق السياسى على آخرين والوصول إلى السلطة. كما أن المذاكرة والتحصيل ضرورة للتفوّق. هنا لا يهم الجمهور مدى «نقاء سريرة» السياسيين الذين يتحدثون إليه، بل ما يهمه حسن أدائهم. لا يهمه «تقدير العالم»، الأكاديمى والسياسى والدبلوماسى، لقضايا حزب ما أو جهة ما، إنما يهمه قدر تلامس قضايا هذا الحزب مع قضاياه. ب«السعى إلى السلطة» يقول الحزب للمواطنين: «أنا محتاج لكم» وعايز أرضيكم. هل اليسار، ولا سيما ذلك الثورى منه، يسعى إلى السلطة؟ أم أنه فى الحقيقة يسعى إلى المعارضة؟ وهذه جملة تحتاج إلى تفصيص. السعى إلى السلطة يختلف عن المطالبة بالسلطة، وكأنها حق مكتسب. وحتى أريحك من النقاش خارج نطاق الموضوع فإن «الثورة» استيلاء على السلطة، بفعل جماهيرى يرجّح فكرة القائمين عليها ويمكنهم من التغلب على السلطة بالقوة. لو كنت لا تملكين هذه القوة، أو رأيت أن امتلاكك لهذه القوة فى منحنى نازل، فليس أمامك إلا السياسة. وماينفعش تقولى «مطالب الثورة». لأن مافيش ثورة إن لم تصلى إلى السلطة. فيه مطالب تعبّر عنك، ومطالب تعبر عن غيرك. يعنى فيه سياسة. لو ظننت أن فريقًا سياسيًّا «يفضل موقع المعارضة» فمن فضلك لا تساعديهم على تمجيد ذلك، لأن فى هذا خراب سياسة الأمم. الساعون إلى المعارضة، إلى البقاء فى موقع المعارضة فقط، هدامون. لا تشغل الواحدة فيهم نفسها فى الصباح «ماذا يجب أن أفعل اليوم»، بل «ماذا ينبغى أن أقول اليوم». تفضيل موقع المعارضة يجعل التيار السياسى يربى قواعده على الاستبياع، وليس على المسؤولية، على تمجيد البطولة السهلة اللفظية، أو السريعة، أو حتى الانتحارية، وليس على تمجيد العمل الدؤوب المؤثر، طويل الأمد والأجل. بمعنى آخر: تمجيد «السلامة من أخطاء السلطة» على العمل مع احتمال الوقوع فى الخطأ. تمجيد «التنظير والفتى». موقع السلطة فى الحياة الديمقراطية أخطر كثيرًا جدًّا من موقع المعارضة، أشبه باختبار آخر العام الذى لولاه لادّعت كل طالبة أنها الأحق بالمقدمة. وبالتالى فإن إسقاط السعى إلى السلطة ليس ترفعًا، بل عدم ثقة فى القدرة، والرغبة فى الإبقاء على الخيبة مستترة ويحيطها «الغموض». الحزب الأوروبى اللى بيقعد بره السلطة عشر سنين بيعلن حالة الطوارئ، لأنه بيخاف يبطل يملك كوادر تشيل الحزب على رجليه لو وصل إلى السلطة. ليه؟ لأن حيازة المهارات الحرفية لإدارة البلد، مش بس مهارة الانتقاد، دا ركن ركين فى السياسة.. ولازم نتعلم من اللى حصل مع الإخوان. إذن الكلام عن افتقاد اليسار الثورى إلى المهارات «الإنسانية» فى التواصل مع الناس، فى التواصل مع المختلفين، مش كلام رومانسى طاير فى الهوا، ولا قضية عارضة. لأ. دا فى صلب الكلام فى السياسة. ودا فى صلب ادعائى أن اليسار المصرى، المكبل بقيود شقّه الثورى، والخاضع دومًا لابتزازه، ليس مؤهلًا للحكم، لا نفسيًّا ولا سياسيًّا.