يقبض بعصبية على المحمول.. يضغط الزر من جديد.. لا مجيب.. يتأوّه ... وأسرع خلف الأوتوبيس، رغم قوة الخبطة التى تعرض لها.. كان يعبر الشارع، وحاول أن يتفادى إحدى العربات، لكن موتوسيكلًا جاء وصدمه بقوّة، وجاءت الصدمة فى رأسه.. وقع على الأرض، وتألم بشدة.. لكنه عاود الوقوف، فليس أمامه وقت، تنبه حتى تمكن من عبور الشارع. ركب الأوتوبيس، جال ببصره بحثًا عن مقعد فارغ، يشعر بدوار وزغللة فى عينه.. وجد المقعد، ألقى بجسده عليه وهو يتحسس رأسه المتألمة.. أدخل يده فى جيب سترته وأخرج محموله.. بحث عن أحد الأرقام.. نظر إلى الدبلة فى يده.. تقلّصت عضلات وجهه، يزيد الألم فى رأسه.. يرفع المحمول، ويضغط زر الاتصال.. الرقم خارج الخدمة.. يلقى ببصره خارج النافذة: الزحام، العربات المتكدسة، الهواء الخانق.. يشعر بازدياد زغللة عينيه.. يطبق جفنيه جلبًا للراحة.. يفتحهما، يفاجأ بحلول الظلام من حوله، الأشياء تظهر كأشباح عائمة فى لجة من السواد، يدعك عينيه، ينظر هنا وهناك.. الشمس تبدو كنقطة مطموسة.. ماذا حدث له؟ هل فقد البصر؟ هل أثّرت عليه صدمة الموتوسيكل؟.. يعتريه خوف وانزعاج كبيران.. قبل أن يسقط فى هوّة عظيمة، يعود الضياء ينتشر من حوله.. يغلق عينيه للحظات ألمًا.. يفتحهما.. ماذا حدث؟.. ينسى الأمر.. يرفع المحمول، يتصل، خارج الخدمة.. يزفر كالمحموم.. لماذا لا يجيب؟ يسرح ببصره عبر الطريق المختنق، الملامح كئيبة، والوجوه جامدة، والزحام كائن خرافى له أذناب فى كل مكان. يقبض بعصبية على المحمول، يضغط الزر من جديد، لا مجيب.. يتأوّه، لماذا يمشى الأوتوبيس بطيئا هكذا؟ لماذا يقف فى كل هذه المحطات؟ يسقط الظلام عليه من جديد، يجول حوله محاولا رؤية أىّ شىء.. الظلام أصبح أكثر تكاثفًا، وضوء الشمس انطمس أكثر.. هل سيخبو نور عينيه؟ إنها المرة الأولى التى يحدث له فيها شىء كهذا.. يصيح منزعجًا، مستنجدًا، ينظر الناس نحوه، لا يعرفون ماذا أصابه.. مالك؟.. فيه حاجة؟.. يشير إلى عينيه دون أن يفصح.. إنت تعبان؟.. قبل أن يجيب يعود له وضوح الرؤية.. حاجة غريبة، إيه اللى بيحصل لى ده؟ لا يجب السكوت على الأمر، سأذهب للطبيب، لا بد، لكن ليس الآن، على أى حال! يهدأ، يرفع المحمول.. يتصل.. لا مجيب، ولا حتى رنّة.. مغلق، خربان، ميت.. ما هذه السلحفاة التى أركبها؟ ليتنى أخذت تاكسيًّا! هيا، أوصلنى بسرعة.. يووه! يقف الأوتوبيس، يهبط مسرعًا، يتوجه نحو الكافتيريا المقامة على النيل، يدخل باندفاع دون أن يأبه باصطدامه برجلين يخرجان للتو، ما أكثر الصدمات اليوم، يعاوده الدوار، تشتد زغللة عينيه، تظلم الدنيا من جديد، هذه المرة الظلام أكثر سوادًا.. يصطدم بإحدى الموائد، يقع على الأرض، يهرع إليه جارسونان وبعض الرواد، يساعدونه على الوقوف، يجلسونه على أقرب مائدة، مالك يا أستاذ؟ إنت دايخ؟.. يجلبون له كوبًا من الماء.. ينظر للسماء، شعاع واحد يأخذ مكان الشمس.. وقت أطول من المرات السابقة.. ماذا حدث؟ هل حل العمى ولن يرحل؟.. لم يستمر الأمر، عاد يرى بوضوح، قام بلهفة، مضى عبر الموائد فى طريق يعرفه جيدا. نظر إلى آخر الكافتيريا، الركن المنزوى الذى يحتضن مائدته.. لم يكن هناك أحد، تقلّصت ملامحه، زاد ألمه، سار حتى وصل إلى المائدة، هوى بجسده فوق أحد المقاعد، شخص ببصره نحو باب الكافتيريا البعيد. المحمول الذى وقع منه وأحضره له الناس، يتصل، تمر لحظات، لا يسمع العبارة المألوفة، المحمول ليس مغلقًا، رنة، ثم أخرى، يسمع دقات قلبه، تطول الرنات، لكن لا يرد أحد، ينفخ، فى إيه؟.. الجارسون.. سلامتك يا أستاذ.. مش تبقى تاخد بالك.. أجيب الاثنين لمون؟.. بعد شوية؟.. حاضر. يشتد تعلقًا بالبوابة.. يعاوده الدوار، تؤلمه عيناه.. يضع يده على وجهه، يتحسس موضع الخبطة.. ورم.. جرح.. المحمول، يمسكه ويتصل، ينتهى الرنين دون إجابة.. يتصل.. يتصل.. أخيرًا، يسمع الصوت.. عمال اتصل فى إيه؟.. كنت عاوز... تتحجر الكلمات فى فمه.. يسمع، ترتخى أصابعه، يتقلّص وجهه... يُقفل الخط. يضع المحمول جانبا، يخرج سيجارة، يشعلها ويشير للجارسون، واحد لمون.. بس.. يحل الظلام.. ينظر للسماء.. تغيب الشمس تماما!