كانت الكلمات التى خرجت «عفو الخاطر» من والد الشهيد فى جنازة ابنه كاشفة مضيئة فاتحة معلّمة كيف يكون الوطن أغلى من الولد، ففى لحظة الفقد -وما يُنبئك عنها كمن فقد الأحبة والصحاب- لا يمكن لأب أن يتاجر بدم ابنه، فى لحظة وقوع مصيبة الموت عبّر أبو الشهيد عن فكر هذا الشعب العميق والعريق، وحسم بكلماته التى شد فيها من أزر قائد الجيش الذى جاء ليواسى، فإذا بالوالد المكلوم هو مَن يشد من عزمنا، حسمت كلماته مصير الجماعة الإرهابية ولفظتها من فوق تراب الوطن الذى حرقوا رايته فى إعلان واضح صريح لا لبس فيه على كراهية مصر وشعبها وجيشها والانتقام منه بقتل حُماته، مذاق فريد للكلمات التى انفرجت عنها شفاه الأب المكلوم بفقد ضناه، يا لها من مقارنة بين رجل فقد حبيبه، عكازه الذى ادّخره للزمن، ثم أول ما ينطق يكون فى حب الوطن، وإكبار رمز الجيش، وبين من لا هوية لهم ولا جذور ولا وطن يحبونه، فهان تراب بلادهم عليهم وأحرقوا علمه. أعيدوا المشهد ودققوا فى ذلك التعبير الأمين الصادق بين كل من والد الشهيد والفريق أول عبد الفتاح السيسى، فما كان بين أحاسيسهما فراغ لمرور خيط رفيع. رأيت فى المشهد الحزين عزمًا وصلابة ومقدرة من القائد والأب المكلوم من الجيش والشعب على التحمّل والإصرار للوصول بمصر إلى بر الأمان والاستقرار، القائد ممثل الجيش، والأب ممثل الشعب الذى قال كلمته يوم السادس والعشرين من يوليو، ولن يرجع فيها ولن يعود عن عهد قطعه مع جيشه ووقّعه الاثنان بالدم. اللحظة المفعمة بعظم المعاناة والمكابدة والآلام والشجون والقلوب المنفطرة التى قَبَّل فيها الفريق السيسى رأس أبو الشهيد، كانت تساوى دهرًا من الحكمة فى أكثر أساليبها إشراقًا وسلاسة وألقًا، لم يبحث الأب المكلوم عن بلاغة يتحدّث بها، وكذلك القائد وهو يهدّئ الخواطر، بل استسلم الاثنان الأب والقائد، الجيش والشعب لمشاعر ألم سيولّد أملًا، لدموع حُبست فى مآقيها ستُسكب يوم تصل مصر لجلال الغاية، يوم نودع آخر شهيد للإرهاب الغادر على أرضك يا غالية. إن كلمات تلك اللحظة ستكون لنا زادًا فى الرحلة، لتقينا من التيه أو الزلل، فاللهم ألهمنا الصبر على فقد أحبابنا وإخوتنا فى الوطن، وأمدّنا بالقوة لتحيا مصر آمنة مطمئنة، ولا تلفتنا عن مرادنا فى اجتذاذ تلك النبتة الشريرة وارزقنا الدواء الذى نستخرج به هذا الداء القاتل، فأمّنوا معى.