فى مسرحية رائعة للكاتب والشاعر الألمانى ذائع الصيت برتولد بريخت اسمها «السيد بونتيلا وتابعه ماتى»، تتوالى أمام جمهور النظارة والمشاهدين من بداية المسرحية حتى نهايتها، لوحات متقنة خفيفة الظل تعرض إلى سلسلة طويلة من مفارقات وتناقضات صارخة تطبع أفعال وسلوك ذلك الإقطاعى الفنلندى المكنى ب«السيد بونيلا» الذى يعرفنا به بريخت فى أبيات التمهيد الشعرى للعرض، واصفا إياه بأنه «يعيش فى ضيعته حياة حيوان منقرض لا حدود لنهمه وجشعه». فأما المفارقة الأساسية التى يقوم عليها بنيان المسرحية فهى ذلك التناقض والتضاد بين سلوك «بونتيلا» فى الليل وهو سكران وبين سلوكه وأفعاله النهارية حين يفيق ويعود إليه وعيه الذى غيبته قوارير الخمر التى يعب منها عندما يحل المساء! ففى غيبوبة السكر تنتاب هذا الإقطاعى الجشع حالة يبدو فيها إنسانا طيب القلب رحيما وعطوفا على الفلاحين والعمال الفقراء فى ضيعته، حتى إنه فى إحدى نوبات الإنسانية والكرم الليلية التى تصيبه وهو مخمور، يقرر ويعلن أنه سيزوج ابنته الوحيدة «إيفا» لتابعه وسائقه «ماتى» بدلا من خطيبها صاحب الوظيفة المرموقة فى السلك الدبلوماسى، الذى كان هو نفسه قد اختاره لها طمعًا فى المجد والشهرة ضاربا صفحًا عن شكوكه بل اقتناعه بأن هذا الشاب ليس رجلا بما يكفى.. أو ليس رجلا بالمرة. لكن بونتيلا إذ يدركه صباح اليوم التالى ويستيقظ من نومه فإن أشعة شمس النهار تبدد كالعادة تلك الصورة الإنسانية التى تقمصها فى الليل وهو سكران ويعود إلى حاله الأصلى، وحشا قاسيا لا يهمه إلا المال والثروة والجاه ومن ثم يعود يعامل تابعه «ماتى» بغلظة وفظاظة ويلحس وعده الليلى له بالزواج من «إيفا»، بل أكثر من ذلك يتهم السائق المسكين بأنه يحاول استغلال ضعفه وغفلته وهو سكران لكى يخطف منه ابنته وينهب ثروته ويخرب بيته!! هكذا باختصار مخل يوضح لنا بريخت من خلال حكايته عن هذا السيد الإقطاعى وتابعه، وإلى أى مدى العلاقة دائما معقّدة بين السادة والأتباع، وشرح بنعومة ولطف كيف أن الود والصدق الحقيقيين فى هذه العلاقة أمر مشكوك فيه أصلا أو بالأحرى، مجرد أوهام لا يمكن التعويل عليها ويستحيل البناء فوقها. هذه المسرحية والفكرة اللامعة التى تنبنى عليها والدرس الثمين الذى انتهت إليه وقائعها، قفزت جميعا إلى رأس العبد لله وأنا أتأمل فى خبر قيام وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى لمصر أمس -بناء على طلبه هو- وذلك للمرة الأولى منذ ثورة 30 يونيو العارمة التى نزعت العصابة الإخوانية من جسد الدولة المصرية رغما عن أنف أسيادها فى واشنطن، وهو ما يعنى وضوح أن هذه الأخيرة اعترفت عمليا بالحقيقة القائمة بالفعل وخلاصتها أن «العصابة» التى استثمرت فيها ودعمتها وراهنت عليها لتخريب هذا الوطن وتركيع شعبه ومد الخراب والتخلف إلى سائر أسقاع وأقطار الأمة حتى يتوج الكيان الصهيونى سيدا وحيدا مهيمنا فى هذه المنطقة. تلك العصابة انتهت ودفن المصريون مشروعها الإجرامى إلى الأبد، وعليه لم يعد هناك مفر من التعامل مع الواقع الجديد، إنقاذا لما تبقى من مصالح مع بلد عظيم لا يملك الأمريكيون أو غيرهم ترف القطيعة النهائى معه والاستمرار فى غباوة تحدى إرادة شعبه. تبقى مشكلة «عصابة الشر» العميلة أنها من فرط الجهالة والطمع والنزق الإجرامى، لا تستطيع أن تفهم أو تتحلى بما تحلى به الخادم «ماتى» فى مسرحية بريخت من وعى وحصافة جعلاه منتبها وواعيا طول الوقت لطبيعة العلاقة مع سيده الإقطاعى، لذلك لم يكن يصدق شيئا من كلماته المعسولة ووعوده الليلية بما فيها الوعد بتزويجه ابنته، إذ ينشد الخادم الذكى على لسان كورس الإنشاد فى آخر لوحات المسرحية: شكرا يا سيدى.. لا أستطيع.. ابنتك لا تناسب سائقًا تعيسًا بائسًا مثلى!! صباح الخير