يبدو أن بعض الثوار أصيب بفوبيا من الانتخابات، لأنه كان يظن بطيبة لا تعرفها السياسة أنه سيفوز فى الانتخابات لأنه أفضل مَن يحقق مصالح الجماهير، ولأن الجماهير ترصد نضالاته وتُقدِّرها وأنها ستصوِّت لصالحه بمجرد أن تُتاح لها الفرصة للتعبير عن آرائها فى أول انتخابات! ثم فوجئ هؤلاء الطيبون بأن نتائج الانتخابات منذ ثورة يناير كانت فى صالح الأكثر مهارة فى اللعبة! ومارست أغلبية الجماهير طريقتها الخاصة فى الاختيار التى لم يكن فى أولوياتها، فى الأغلب الأعم من الدوائر، لا التاريخ النضالى للمرشح ولا برنامجه الثورى! ووصل الأمر بواحد من هؤلاء المخلصين إلى الإعراب عن مخاوفه قبل أيام على التليفزيون، وكان الحديث عن أفضل قانون للانتخابات البرلمانية المقبلة، فأعرب عن خشيته من نظام الانتخابات بالمقاعد الفردية، وقال إن فلول مبارك هم الذين سوف يستفيدون من هذا النظام بما لهم من عصبيات وقدرات مالية ضخمة تساعدهم فى الإنفاق على هذا النوع من الحملات، ثم، ومباشرة ودون توقف، رفض الانتخاب بالقائمة قائلا إن هذا هو ما يفضِّله ويجيده الإخوان المسلمون وحلفاؤهم! وهكذا، رفض البديلين الوحيدين المطروحين لخوض الانتخابات البرلمانية! هذا مؤشر لاضطراب استبد بعدد من قيادات وتيارات ساهمت بإخلاص فى مسار الثورة بدءا مما قبل يناير 2011 وحتى اليوم، وكانت رؤيتهم فى السابق واضحة صافية ضد مبارك، ثم ضد المجلس العسكرى الذى دفع مسؤولوه آنذاك بالأمور فى متاهة لا نزال فى توابعها، ثم توجه رفضُهم ومقاومتُهم بحسم ضد حكم الإخوان وحلفائهم. وقد ضحى هؤلاء المناضلون بالكثير فى سبيل تحقيق ما يؤمنون به، وقد تحقق لهم فى الأخير بعض أهدافهم الضخمة. ولكن الصعوبة تجلت أمام هؤلاء بعد ذلك عندما هبط شعار الديمقراطية على الأرض، وأصبح المطروح مستهدفات عملية لها إجراءات واجبة الاتباع. وكانت المفارقة التى اتضحت أمام هؤلاء هى أن القيام بثورة والنجاح فى الإطاحة بنظام أخفُّ وأسهل من كسب المعارك الانتخابية التى هى فى صميمها من المطالب الأساسية لثورتهم، بل إن إنجازها هو معيار نجاح ثورتهم! كانت الصدمة الأولى، بعد شهور من النجاح فى الإطاحة بمبارك، عندما أصرّ شباب الثورة، بينما كانت الانتخابات البرلمانية على الأبواب، على أن الأولوية هى أن المجلس العسكرى «لازم يمشى»، فاستمروا فى اعتصامهم فى الميادين، وقدمت الفتيات والشباب نماذج باسلة بشجاعة التصدى والتضحية فى سبيل قضيتهم، ولكن، وعلى الجانب الآخر، انسحب الإخوان وحلفاؤهم من المشاركة فى هذه المهام وانخرطوا بكل طاقتهم فى معركة الانتخابات البرلمانية، فجمعوا كوادرهم وشحنوا جماهيرهم وضموا إليهم المنتفعين بنفحات الزيت والسكر، وأطلقوا عنان رجالهم على منابر المساجد وفى التليفزيون للترويج للمدافعين عن الإسلام وضد الكفار الذين يريدون الردة إلى الجاهلية، وأغدقوا الأموال بسخاء أدهش الجميع عن مصادر التمويل شديدة الثراء! وقد تجاوز الإنفاق بنود عينيات الطعام إلى الفقراء بتبذير مستفز مثير للريبة فى دعاية انتخابية تستخدم كل المنابر وكل الوسائط وكل الأدوات، وظهرت لأول مرة بلا مواربة الأوتوبيسات العملاقة تنقل الناخبين من دورهم إلى مقار لجان التصويت، ووقعت خروقات هائلة وصلت إلى حد منع الناخبين من قرى قبطية من التصويت حتى لا تذهب أصواتهم إلى المنافسين! وعرقلة الناخبين فى لجان أخرى عن التصويت..إلخ إلخ الصعوبة التى أدركها الثوار الحالمون أنه، كما أن الفوز فى كرة القدم لا يُحسب إلا بعدد الأهداف، وقد يخسر الفريق الأفضل، فإن الناجح فى الانتخابات هو من يحصل على أعلى الأصوات، ولا يُعتَد بطريقة حصوله عليها حتى إذا خرق القانون واللوائح، ما دام أنه خبير إلى حد يمكنه من مداراة انتهاكاته، حتى إذا كانت فادحة! لقد هبط شعار الديمقراطية من تجرده كفكرة تداعب الحالمين وتعيّن على الأرض بشروط وإجراءات انتخابات المؤسسات النيابية، وعلى رأسها البرلمان، لتحقيق الإدارة الديمقراطية للشؤون العامة، ولم يعد هناك ترف يبرر التهاون فى امتلاك وتطوير وتجويد كل مهارات العملية الانتخابية. وبرغم هذه الإخفاقات، فهناك آمال كبيرة للفوز، إذا تذكرنا أنه لم يحصل تيار إسلامى وحده على الأغلبية فى أية انتخابات سابقة، وإنما كان عليهم أن يتحالفوا معا لتكوين أغلبية برلمانية، وقد تراجعت شعبيتهم الآن وانحسرت فى عضويتهم والحادبين الأقربين عليهم، بل إنهم ينكرون هويتهم الآن فى بعض القرى والأحياء لتفادى غضب الجماهير التى هالها فضائحهم، وهذا مؤشر إلى تراجع متوقع فى الانتخابات المقبلة. يُضاف إلى ذلك وجوب البدء بتنقية قاعدة بيانات الناخبين، والتدقيق فى كل الإجراءات منذ الإعلان عن الانتخابات وحتى إعلان النتائج! ولكن الأهم من كل هذا إدراك أن خسارة التيارات الدينية لا تعنى تلقائيا أن يفوز أنصار الثورة، لأنه لا أحد يفوز دون عمل واجتهاد ودأب.