تولى أبو بكر الصديق، رضى الله عنه، الخلافة، وكانت هذه أول معضلة يقع فيها المسلمون بعد موت رسول الله، فرسول الله كان قرآنا يمشى على الأرض، وحياة المسلمين كلها كانت متعلقة بوحى من السماء ينزل على رسول الله، أما الآن فها هو أول واحد منهم يتولى الخلافة، يعلمون أن أفعاله بشرية خالصة، لا يعضدها الوحى، ولا يعصمها من الوقوع فى الخطأ، ولهذا كان لا بد لأبى بكر أن يستعين بصحابة رسول الله الأخيار فى أمره وأمر الأمة. تولى عمر بن الخطاب رضى الله عنه القضاء، وهو من الأهمية بمكان، فالصحابة كانوا يعرضون أمورهم ويشتكون ويطلبون المشورة من رسول الله، أما الآن فإن عمر أصبح هو المسؤول، يحمل على عاتقه مهمة أن يسود المجتمع الإسلامى الود والمحبة، وأن تختفى العداوة والشحناء والنزاعات، ناهيك بأن يرضى الجميع بحكمه وأن لا يعلق عليه أحد، إذا حكم لصالح طرف هلل وشكر الله على نعمة القضاء العادل، وإذا حكم ضده، غضب وصرخ وتحسر على ما فات من الأيام، وعلى القضاء الذى لم يعد شامخا. تمر الأيام العصيبة الأولى على الأمة الإسلامية بعد موت رسول الله وحروب الردة، وانشغال المسلمين بتثبيت أركان الدولة والقضاء على المتمردين والمرتدين، ويأتى عمر بعد سنة إلى أبى بكر الصديق يعتذر عن عدم إتمام المهمة، ويطلب ترك القضاء، يسأله أبو بكر متعجبا: أمن مشقة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر؟ ويحق لأبى بكر العجب، فهذا عمر المعروف بالشدة والقوة والتحمل والثبات فى المعارك، يأتى الآن ويعتذر عن مهمة يفعلها وهو جالس فى مكانه؟ ولكن عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، لديه سبب آخر، قال له: «لا يا خليفة رسول الله، ولكن لا حاجة بى عند قوم مؤمنين، عرف كل منهم ما له من حق، فلم يطلب أكثر منه، وما عليه من واجب فلم يقصر فى أدائه، أحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه، إذا غاب أحدهم تفقدوه، وإذا مرض عادوه، وإذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج ساعدوه، وإذا أصيب عزوه وواسوه، دينهم النصيحة، وخلقهم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ففيمَ يختصمون؟ ففيمَ يختصمون؟». إن عمر بن الخطاب رجع أمر صلاح المجتمع إلى تقوى الناس، لم يقل: البركة فيك يا سيادة الخليفة.. كلهم ماشيين على توجيهات سعادتك.. الصحابة فعلا كانوا تربية النبى، صلى الله عليه وسلم، فلم تتغير أخلاقهم بعد موت رسول الله، علموا أين الخير ففعلوه، وعلموا أين الشر فتجنبوه.. ولذلك فإن علاقة المسلمين بأى خليفة، من الراشدين، كانت علاقة محاسبة ومكاشفة، يعرف الخليفة أنه لن يستطيع أن يغوى شعبه بالمال ولا بالسلطة ولا بالاقتراب من دوائر صنع القرار، ولا تجدى المصالح الدنيوية مع أناس كانوا يقذفون أنفسهم بشجاعة على أسنة رماح أعدائهم طلبا للشهادة، فيتقى الله فيهم ويحكم بينهم بالعدل.. ويعرف الشعب أن وظيفته العمل والكد وطاعة الخليفة ما دام طائعا لله، ومحاسبته ومكاشفته وعقابه إن أذل الدولة وكان عبئا عليها.. والناظر إلى خطب (الراشدين) عند تولى الخلافة سيجد دائما فقرة تحث المسلمين على محاسبة الخليفة مهما كان قدره. امتلأت الأمة الإسلامية الآن بالبشر، وصرنا نرقص طربا كلما زاد العدد وتفوقنا على الديانات الأخرى، وننسى دائما أن الإسلام ليس كلمة من السجل المدنى، إنه نيات وأفعال والتزام وتفكير وتأثير وتطبيق.. إذا فحصت كل القضايا المعروضة أمام القضاء بين المسلمين ستجد أن معظمها لا يحتاج إلى قاض ومستشارين وتحديد جلسات، وإنما تحتاج إلى اتنين صحاب يحكموا مع كوبايتين شاى! نلوم كثيرا على القضاء، رغم أننا السبب فى معظم ما نلومه عليه، نحن الذين نعطيه قوانين مشبوهة، ودستورا معوقا، وقضايا سياسية لأجل المصلحة، لا لأجل الوطن، وخروج عن الشرع والقانون، ولو تجرد كل منا من نزواته ومصالحه وخططه التمكينية ورغبته فى الاستحواذ على وطن، لوصلنا إلى ما وصل إليه حال المسلمين أيام عمر بن الخطاب.