الإعلانات التليفزيونية بشكل عام تمثل انعكاسًا صادقًا للأحوال الاقتصادية وتوجهات رأس المال التى تستهدف شرائح بعينها فى الأسواق، وإعلانات رمضان، بعد مرور أول أيامه هذا العام، تشرح الكثير لمن يريد أن يفهم، ولها علاقة واضحة بالارتفاع الرهيب فى سعر الدولار وانهيار قيمة العملة المحلية الذى أدى بصورة كبيرة إلى انخفاض القدرة الشرائية للطبقة المتوسطة. يتضح هذا الأمر فى نقطتين هامتين. الأولى تتعلق بحجم المادة الإعلانية، ويمكن للمشاهدين بسهولة ملاحظة انخفاض الفترة الزمنية المحددة للفواصل الإعلانية التى تتخلل المادة الدرامية الرمضانية هذا العام فى كثير من القنوات فى ساعات ذروة المشاهدة، والتى كانت تمثل فى الأعوام السابقة عبئًا نفسيًّا يجهدهم ويقلل من استمتاعهم، لأنه كان يمنعهم من متابعة المسلسلات والبرامج بسلاسة وانسياب. هذا الانخفاض الزمنى غير المسبوق يؤكد عزوف المنتجين عن التورط فى إنفاق ترويجى ضخم لسلعهم يعجز عن تحقيق معدلات تسويق مرتفعة فى سوق راكدة، ويؤدى إلى خسارة كبيرة لهم لا يعوضها حجم الإقبال الشرائى المتدنى المتوقع. النقطة الثانية تتضح جليًّا فى موضوع المادة الإعلانية نفسها، والتى تكاد أن تنحصر فى نوعين فقط هما، التبرع للمستشفيات والجمعيات الخيرية، والترويج لسوق العقارات. يحدث هذا فى ظل غياب شبه كامل للإعلانات الرمضانية المعتادة عن المطاعم والمواد الغذائية كالسمن والزيوت والحلويات الشرقية ومنتجات الألبان وغيرها من الأطعمة، مما يؤكد عدم جدوى الإنفاق عليها فى ظل انخفاض القدرة الشرائية للطبقة الوسطى المجهدة، كما أشرنا فى السطور السابقة. بالطبع لا يحتاج الأمر إلى توضيح لهذه النوعية من الإعلانات الخاصة بالتبرع للأعمال الخيرية وتنشيط سوق العقارات، لأن اللبيب بالإشارة يفهم. فكلاهما يتوجهان للشرائح العليا من الطبقة الوسطى، وما فوقها، حيث يوجد المستهدف القادر على التبرع للفقراء وعلى شراء شقق وفيلات الكومباوندات الفاخرة التى لا يحلم بها الغالبية العظمى من السكان. دورة رأس المال فى المجتمع يصيبها العطب، وتنذر بالخطر، حين تتوفر السلع الاستهلاكية ولا يوجد من يقدر على شرائها خارج دوائر الميسورين. المراهنة على انخفاض الأسعار كنتيجة للمقاطعة أو لقلة الإقبال على الشراء يمكن أن يؤتى ثماره فى تقليل التجار لهامش أرباحهم فقط، ولكنه لن يؤدى مطلقًا إلى إعادة التسعير بمعدلات تتناسب مع الدخول وتتسبب فى خسارة للمنتجين. عندما يعجز المنتج عن تحقيق الربح الكافى فى سوق تنقصها القدرة الشرائية يتوقف عن العمل أو يهرب منها حاملاً رأسماله ومدخراته. الرواج الاقتصادى الحقيقى لا يحدث بالإنفاق غير المجدى فى مشروعات وهمية والترويج لها كذبًا باعتبارها مفتاح الحل لأزمتنا الاقتصادية، ولا يتحقق بالمبالغة فى الإعلان عن اكتشاف حقول غاز سيرفع حجم إنتاجها الوهمى متوسط دخل الفرد بعصاه السحرية، ولن يتحقق أيضًا بتنمية عوراء تصب عوائدها بأكملها فى "كروش" المستثمرين الحاصلين بمفردهم على كل أنواع التسهيلات الضريبية والجمركية، فضلاً عن حصولهم على الأراضى والطاقة بأسعار متدنية، بل لا يمكن أن يحدث إلا بإعادة توزيع الناتج القومى بصورة عادلة حتى تتوفر السيولة، وتتمكن كافة الطبقات من الشراء ليعود التوازن مرة أخرى لدورة رأس المال. الفائدة الوحيدة، وهذه مزحة بالطبع، للركود الاقتصادى هى تمكين مشاهد التليفزيون من متابعة البرامج والدراما الرمضانية التى يحبها دون فواصل زمنية كبيرة تفسد متعته! يا له من ثمن باهظ يدفعه المجتمع لتحقيق فائدة بخسة لا تحقق له أى استقرار سوى على "الكنب الإسطمبولى" والمقاعد الوثيرة أمام شاشات التليفزيون!