حديث الرئيس عبدالفتاح السيسي، صباح الخميس، في افتتاح عدد من المشروعات بمدينة بدر، تطرق إلى كثير من القضايا المهمة، كما حمل العديد من الإشارات الإيجابية في الفهم النظري للمشكلات التي تواجه الدولة، منها على سبيل المثال لا الحصر، أزمة الثقة في الدولة في قضية مثل انتقال سكان العشوائيات لأماكن أخرى، وعدم طرح الأراضي للمواطنين، بما يؤدي لتزايد ظاهرة التعديّات على أراضي الدولة، فضلًا عن ظاهرة المحسوبية والتجاوزات بما في ذلك من منتمين لمؤسسات الدولة ومؤسسة الرئاسة، وهو ما أشار له الرئيس في حديثه، وأنه طلب محاسبة ومحاكمة هؤلاء المتجاوزين حتى في مؤسسة الرئاسة، مؤكدًا أنه مع ضمان حق كل مواطن مصري في الحصول على حقوقه بالقانون ومع محاسبة أي مسؤول مهما كان موقعه أيضًا بالقانون .. هكذا قال الرئيس، وهكذا حدد فهمه لدولة القانون. (1) دعك من تفاصيل المشروعات وأولويتها، ودقة الأرقام التي طرح بعضها وطالب الرئيس بمراجعته، ودعك أيضًا من العادة المتكررة بالدعوة لإنجاز مشروعات في مدى زمني أقل من المحدد لها، وهو أمر إيجابي بالتأكيد لكن غير مفهوم لماذا يتكرر في اللقاءات العلنية وليس قبلها في جِلسات إعداد خطط هذه المشروعات طالما كان هذا ممكنا، ثم دعك أيضًا الآن من العادة التي صارت قاعدة لا استثناءً من أن تصبح القوات المسلحة هي المسؤول عن التنفيذ والإشراف على كافة المشروعات التي يجرى تنفيذها، وهي قضية تحتاج لتناول منفصل بكل آثارها على دور ووضع دولة المؤسسات وعلى الاقتصاد المصري، رغم تفهم أنها قد تكون استثناءً لا قاعدة في ظل الظروف الحالية، لكن ما يجري يبدو عكس ذلك. ما يستحق حقًا التوقف أمامه هنا هو ثلاث إشارات رئيسية في حديث الرئيس، دولة القانون، وحصول المصريين على حقوقهم، وأزمة الثقة بين الشعب والدولة أو بمعنى أدق السلطة. وهو ما يجعلنا نبادر لطرح ثلاث تساؤلات أساسية للرئيس، إذا كان ما قاله في حديثه هذا معبرًا عن قناعاته ورأيه وموقفه، الأول هو إذا كان الحديث عن دولة القانون ومحاسبة كل من يتجاوزه أيًا كان موقعه حتى وإن كان جزءًا في مؤسسة الرئاسة، فلماذا إذًا لا ينطبق ذلك على كثير من المظاهر الصارخة والفجة لمخالفة القوانين؛ بل ونصوص الدستور نفسه من جانب مسؤولين في هذه السلطة، وبالذات تجاه قضايا الحريات العامة ؟؟. سؤالنا الثاني هو، إذا كانت السلطة تضمن حقًا حصول المصريين على حقوقهم، فكيف لا زلنا نرى كل هذا القدر من شيوع الظلم وإحساس المواطنين بالمعاناة في مجالات متعددة من حياتهم، سواء في غلاء الأسعار أو ارتفاع الفواتير، أو عدم الحصول على فرص عمل أو علاج مناسب أو تعليم جيد أو سكن يليق بهم ؟ ولمن يتوجهون لرفع كل تلك المظالم غير الخافية على أحد للحصول على حقوقهم المنصوص عليها دستوريًا في كل تلك المجالات، على الأقل فيما هو عاجل وملح منها، دونمًا دعوتهم لانتظار إصلاح الأحوال واستقرار الأوضاع بعد سنوات طويلة تضاف لرصيد سنوات معاناتهم ؟. أمّا السؤال الثالث فهو حول ما إذا كان الرئيس يدرك أن أزمة الثقة بين السلطة وقطاعات من الشعب التي تتزايد مساحاتها يومًا بعد الآخر، لا تقتصر فقط على أمور من نوع رفض سكان المناطق العشوائية لمغادرة مساكنهم والانتقال لأخرى، أو التعديات على الأراضي غير المقبولة بالتأكيد لكنها تتم في نفس سياق عدم الثقة وتأخر الدولة في إجراءات طرح الأراضي للمواطنين للاستفادة منها ؟؟ هل هذه المظاهر فقط هي ما يرى من خلالها الرئيس أزمة الثقة أم أنها مجرد إشارات تدل على إدراك أوسع وأعمق لتزايد هذه الأزمة بشدة يوما بعد الآخر، وبسبب سياسات وممارسات السلطة الحالية ؟ (2) شكاوى الظلم لم تتوقف ولم تنقطع على مدار الشهور الماضية، بل هي في تزايد واضح يومًا بعد الآخر، ورغم كل ما يحاول السيسي وحكومته الترويج له من مشروعات كبيرة وإنجازات في قضية البناء والتنمية، إلّا أن هناك أضلاع ناقصة في شعور الناس بالعدالة وبالحصول على ثمار عادلة في تلك التنمية التي يتحدثون عنها، والأمثلة أكبر من أن تعد أو تحصى.. من مواطنين عاديين وبسطاء يتعرضون لتجاوزات وانتهاكات عادت وبشراسة من الأجهزة الأمنية، سواء تجاههم أو تجاه أبنائهم وذويهم، ومن معاناتهم من الغلاء ومن فواتير المياه والكهرباء والغاز التي تزايدت بشكل مرعب، ومن متضررين من حرائق المسؤول عنها هو أجهزة الدولة بإهمالها وتأخر خطط تطويرها للمناطق المكدسة وغياب التأمين اللازم.. ومن هؤلاء جميعًا إلى قطاعات شابة بينهم من يحبس ويسجن بسبب تعبيره عن رأيه، سواء في تظاهرات أو في كتابات صحفية أو رفع دعاوى قانونية أو حتى بعمل فيديوهات ساخرة، ويصل الأمر لتصبح الاتهامات الموجهة لهؤلاء بناءً على تحريات ومحاضر الأجهزة الأمنية التي تفتقد للحد الأدنى من الجدية والكفاءة والدلائل، من التحريض والتخطيط والسعي لاغتيال رئيس الجمهورية كما صرح وزير الخارجية مؤخرًا إلى الترويج لأفكار إرهابية والتحريض عليها وأقلها صار التحريض على التظاهر الذي صار جريمة بالأساس، فضلًاعن كونه صار اتهامًا هينًا مقارنة بما نسمعه الآن من اتهامات موجهة لقطاعات من الشباب والطلاب بالمئات وربما أكثر .. وبين هؤلاء الشباب كذلك وبعيدًا حتى عن المعارضة من يفقد الأمل في التقدم للمستقبل في ظل كل هذا الذي يجري في البلاد، من غياب فرص عمل مناسبة لمؤهلاتهم، ومن وضع اقتصادي مؤلم تعد الحكومة بالمزيد من الإجراءات المؤلمة معه، ومن الشعور بالظلم حتى في الحصول على فرصة في التعيين، سواء لحملة مؤهلات الدكتوراة أو لمن تم رفض التحاقهم بالنيابة العامة، بسبب أصولهم الاجتماعية .. ثم ومع كل هؤلاء وغيرهم من قطاعات اجتماعية تتزايد شكواها وأنينها، تجد أزمات حقيقية وجادة لدى قطاعات مهنية رئيسية مثل المحامين، والأطباء، والمهندسين، وأخيرًا الصحفيين، في ظل ما جرى ويجرى معهم من وزارة الداخلية بالذات، ومع ذلك، ورغم الحديث عن دولة القانون، فإننا نرى دفاعًا كاملًا من السلطة عن أخطاء الوزارة باعتبارها ضرورات أحيانا في مواجهة الإرهاب الذي اتسع مفهومه ليشمل معارضين ومختلفين في الرأي والموقف، بل ونرى تبريرًا لبعض ممارساتها يجعل من مخالفة القانون والدستور والاعتداء على الحريات وممارسة القمع نهارًا جهارًا، مجرد تطبيق للقانون والتزام به، ويحول أدوات، مثل حظر النشر والحبس الاحتياطي والكفالات إلى عقوبات في حد ذاتها لا مجرد ضمانات قانونية. (3) (اسمع كلامك اصدقك أشوف أمورك استعجب) مثل مصري شهير وذائع يدل على التناقض بين الأقوال والأفعال، الأزمة الأكبر أنه حتى الشطر الأول من المثل لم يعد مثلما كان منذ شهور وسنوات محدودة، فقد صدق المصريون أن هناك من سيحنو عليهم، ومن سيحترم حرياتهم بعد ثورتين كانت الحرية والديمقراطية في القلب من شعاراتهم، وبأن هناك من سيجعل مصر قد الدنيا لا أن يعترف بأنها شبه دولة بعد عامين فقط من وعده الأول، وبأن القانون سيطبق على الجميع لا يستثني منه من يطبقون ويخدمون سياسات الاستبداد والقمع والقهر والكبت، وأن الممارسات التي ظلت شرخًا عميقًا في أي معنى لاحترام حقوق الإنسان من اعتداء وتعذيب وتنكيل قد توقفت وانتهت لكنها تبدو واضحة من مئات الشهادات التي نسمعها ونعرفها، وأن الدستور الذي صوّت عليه المصريون في استفتاء شعبي بنسبة كاسحة، سيكون ملزمًا للجميع وعلى رأسهم السلطة التي جاءت بعد 30 يونيو . كل هذه المعاني وغيرها الكثير تجسد معاناة المصريين حتى وإن كان كثير منهم ساكتًا عنها وكاتمًا لغضبه منها، والأخطر هو شعورهم بافتقاد العدل وشيوع الظلم، وفقدان الأمل في مستقبل قريب، وهذا شعور لم يعد قاصرًا على معارضين ونشطاء وسياسيين ونخب؛ بل هو يتسع ويتمدد بين قطاعات اجتماعية متعددة يومًا بعد الآخر. في الاستطلاع الأخير لمركز بصيرة، وبغض النظر عن رأينا في مصداقية وكفاءة تعبير تلك الاستطلاعات على توجهات المجتمع المصري بشكل حقيقي، إلّا أنها في النهاية مجرد مؤشر.. هذا المؤشر يكشف للرئيس وسلطته بوضوح لا فقط مجرد تراجع شعبيته الطاغية التي حظى بها وكانت فرصة ذهبية لخطوات جذرية وجادة في بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة عادلة ناجحة كفؤة، بل كذلك يكشف تسارع معدل هذا التراجع.. ثم أنه يكشف كذلك عن زيادة واضحة وفارقة في هذه المعدلات لدى الشباب الأصغر سنًا، وهم القطاع الأكبر عدديًا والأكثر تأثيرًا بحكم تنوع مهاراتهم وانفتاحهم، ثم أنهم الأكثر توقًا واتساقًا مع قيم وشعارات ثورة يناير التي تجددت وتكررت في يونيو. (4) الاستطلاع الأخير المشار له لا يعني بالتأكيد أن السلطة الحالية فقدت شعبيتها تمامًا، فلا تزال تحظى بأغلبية وفقًا لما هو وارد في أرقامه وإحصائياته، وهو ربما يكون أمر واقع ملموس رغم كل ما جرى ويجري، لكنه أيضًا يكشف عن تراجع مطرد ومتزايد، خاصة أنه يجري بعد عامين فقط من حكم السيسي أي بعد انتصاف مدته.. لكن بعيدًا هنا عن مسؤولية السلطة وسياساتها في الوصول إلى ذلك الوضع الراهن المتأزم، الذي تبدو فيه الخيارات محدودة ويبدو فيه شطط التسرع والتعجل بالغ الخطورة.. لكنه كذلك يلقي بمسؤولية كبرى على معارضي السياسات الحالية ونتائجها، لا في مجرد انتقادها ومعارضتها وتقديم وطرح البدائل لها، بل في بلورة تصورات واضحة وعملية بل وآمنة ولها قبول شعبي، لتغيير هذه الأوضاع القائمة.. وهي مهمة تبدو في غاية الصعوبة لكن ربما لا سبيل آخر غيرها.. وربما يكون موعد يونيو 2018 أقرب مما يتصور البعض، لكن المهم هنا هو الالتفات له والانتباه مبكرًا قبل أن يفوت آوان الاستعداد الجاد والفعلي لها.