"أقسم بالله العظيم أن لا احترم الدستور ولا القانون وأن أكون مخلصا للزحف المقدس لتوريث أبناء القضاة وأن استمر في التنكيل بالعبيد وأن أعلي مصالح الأسياد". هكذا تصورت القسم الذى أسره المستشار أحمد الزند في نفسه حين عُين وزيرا للعدل فى 20 مايو 2015. جاء قرار تعيينه صادما للكثيرين ممن كانوا يتوسمون بعض الخير في نية النظام الحاكم في إصلاح منظومة القضاء. إذ إنه لا يخفى على الجميع أن الزند كان محسوبا على نظام مبارك الذى دعم وصوله لرئاسة نادي القضاة، ومتوائما مع تزوير انتخابات مجلس الشعب عام 2010، ومحاربا لتيار الاستقلال داخل النادى، على النقيض من المستشار زكريا عبدالعزيزالرئيس السابق لنادى القضاة الذى إتخذ موقفا معارضا لتزويرالإنتخابات عام ٢٠٠5. وتباينت مواقف الزند وتبدلت مع تغير الأحداث وغلبة من في السلطة، حيث بدأ موقفه عدائيا لثورة 25 يناير ووصف من شارك بها بالغوغاء، ثم تحول حين أصبحت الغلبة للثورة، فدعا إلى تعليق المشانق لمن يمثلون الثورة المضادة. ولم يكن ذلك هو وصمته الوحيدة، فقد تنوعت مواقفه الصادمة ما بين تصريحات غير مسؤولة، إلى اشتغاله بالسياسة رغم حرمتها على من يعمل بالقضاء، إلى تلفظه بألفاظ لا تليق بوقار وهيبة القضاء. وبالرغم من أن سلفه محفوظ صابر قد إستقال على خلفية تصريحات عنصرية تفوه بها، كان الزند قد أكد قبل ذلك فى تصريح فج بأن القضاة هم الأسياد وغيرهم العبيد، واستمر فى دفاعه عن توريث أبناء القضاة لمناصب القضاء واصفا إياها بالزحف المقدس، فى مخالفة صارخة للدستور الذى ينص على مساواة المواطنين أمام القانون، ومخالفة لتعاليم الدين الذى يأمرنا بالمساواة وعدم التمييز. كما تواترت عدة تصريحات لمسؤولين عن تورطه فى وقائع فساد منها إستيلائه على أراضى في منطقة الحزام الأخضر بمدينة 6 أكتوبر، وقيامه ببيع قطعة أرض مخصصة لنادى القضاة فى محافظة بورسعيد لأحد أقاربه بسعر يقل كثيرا عن سعرها الحقيقي. ومع ذلك لم يجد النظام الحاكم في كل ماسبق من تجاوزات حرجا فى تعيينه وزيرا للعدل، وسط غضب تيار الثورة والإصلاح. ولم يخيب الزند سوء ظن هذا التيار به، فلم يردعه كونه أصبح وزيرا للعدل من الإستمرار في منهجه السابق، واستمر فى إدهاش الجميع بمزيد من التصريحات الغاضبة متناسيا ثقل أمانة العدالة التى يحملها. فتوعد بعقاب من يتعرض لصورة القضاة "بحرق قلبه ومحو خياله من على أرض مصر"، وأيضا بإصدار "قانون يعاقب والدىّ الإرهابي"، وقوله "لن تنطفئ النار في قلبي، إلا إذا تم قتل مقابل كل شهيد من القوات المسلحة عشرة آلاف من الإخوان، ومن يعاونهم ويحبهم"، بما يخالف الدستور الذى ينص على أن العقوبة شخصية، ويخالف أمر الله {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} و{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}. فلا عجب إذن أن تصدر في عهده أحكاما بإعدام المئات في جناية قتل واحدة، والتى جعلت من القضاء المصرى أضحوكة العالم ومثار للغضب والإستنكار. وقد تُوج كل ما سبق باتهام الجهاز المركزى للمحاسبات له بالتربح والإضرار بالمال العام والتزوير في محررات رسمية للإستيلاء على 300 فدان من أرض مدينة الحمام، وفى تبديد المال العام أثناء عمله كرئيس لنادى القضاة. كما إتهمه هشام جنينة رئيس الجهاز بالتدخل في مجرى القضاء وتهديد القاضى المكلف بالتحقيق معه لإبعاده وإسناد قضاياه لقاضى بعينه. لم يجد النظام الحاكم في كل ما سبق ما يستدعى إقالة وزير العدل، ولكن يبدو أن عدالة السماء تدخلت لتقتص لهذا الكم من الظلم والتعالى، فأخذته الجلالة بالعزة وهدد فى حوار تليفزيونى بلهجته الفوقية المعتادة ردا على سؤال عن حبس الصحفيين "هاحبس أى حد، إن شا الله كان النبي هاحبسه...، أستغفر الله العظيم". وهنا قامت الدنيا ولم تقعد بالرغم من استغفاره في حينها وتكرار اعتذاره عن هذه الزلة بعدها. أثار تصريح الزند مطالبات من سياسيين وإعلاميين وشيوخ بإقالته ومحاكمته بتهمة إزدراء الدين الإسلامي، فيما طالب نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي الحكومة بتقديم اعتذارا رسميا عن تصريح الزند المسيء. ويبدو بعد ذلك أن أحدهم أعطى إشارة الضوء الأخضر للتخلص منه، فتوالت مداخلات المشاهدين في الإعلام تدين تعرضه للنبى عليه الصلاة والسلام، وأصدر شيخ الأزهر بيانا منددا ومحذرا من التعرض للمقام النبوى الشريف، تلاه قرار سريع لرئيس الوزراء يإقالته من منصبه. لم تتم إقالة الزند ولم يُغضب عليه بسبب أي من التجاوزات الكثيرة السابقة، لا لشبهة الفساد، ولا لجنايات التربح والتزوير، ولا لتدخله فى مجرى العدالة والقضاء، ولا لإعلانه عن رغبته فى الإنتقام وقتل مئات الآلاف، ولا لإنتهاكه الصارخ للدستورالذى يساوى بين المواطنين الذين قسمهم هو إلى أسياد وعبيد. لم تتم إقالته بسبب الشبهات والتجاوزات التى أقترفها ولم يعتذر عنها أو يحاسب عليها، بل تمت إقالته لخطأ عفوى وزلة لسان أعتذرعنها. لم يعلق شيخ الأزهر حين خالف الزند صحيح الدين الذى يقر بأن الناس "سواسية كأسنان المشط"، ولم يصدر بيانا أو يعترض على وصفه الشعب بالعبيد بما يخالف تعاليم الإسلام، ولم يجزع هو أو رئيس الوزراء حين أُتهم وزير العدل بالفساد والتزوير، وهى ذنوبا لو تعلمون كبيرة. ألم يكن من الأحرى أن يقال وزير العدل حين أطاح بالعدل؟ ألم يكن إتهامه بعدة جنايات وتدخله فى سير العدالة سببا كافيا ووافيا لعزله من قبل؟ بل ومحاكمته أيضا؟ المؤسف فى إقالة الزند أنها أكدت أن النظام الحاكم قد يدين ويعاقب من يخطئ عفويا بزلة لسان تمس الدين، ولكنه يغفر ويتسامح بل ويتصالح مع من يقترف ما يجرمه الدستور والقانون ويحرمه الدين من إستغلال وفساد وإهانة الإنسان، بل وقد يعينه وزيرا! وبفرض أن من أقاله وجد فى خطأه هذا فرصة لمعاقبته عن مجمل أعماله أو للتخلص منه، ألم يكن من الأفضل، لمصداقية من يحكم أو حتى لكي يكون الزند عبرة لغيره، أن يكون سبب إقالته المعلن هو مخالفته للقانون؟ أو إهانته للمواطنين؟ كما إن ماحدث كشف عن معضلة فى تدين الكثيرين وفهمهم لتعاليم الدين. لماذا أنقلبت الغالبية ضده لخطأه العفوى الذى إستغفر الله بعده ولم ينتفضوا لكل ذنوبه السابقة؟ من تأثر لزلة لسان الزند ولم يتأثر بما أرتكبه من قبل من زلل الفساد والتمييز بين الناس والتحريض على القتل، عليه أن يراجع نفسه ويراجع مفهومه للدين، لأن أعظم مقاصد الدين هو العدل. فقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: "لأن تهدم الكعبة حجراً حجراً أهون على الله من أن يراق دم امرئ مسلم". فالإسلام يثمن حياة البشر التى حرض على قتلها وزير العدل أكثر من مقدسات الدين نفسه. فزلة لسانه التى أزعجتكم إلى هذا الحد أهون عند الله من تحريضه على القتل في تصريحاته السابقة. كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". وأخيرا إن تعيين الزند وإقالته لهما دلالات أكبر فيما يخص منظومة القضاء ومؤسسات الدولة يجب ان تستوقفنا وتزعجنا جميعا. لماذا لم يحاسب الزند عن مخالفاته العديدة وإنتهاكاته للقانون؟ هل المنصب يحمى صاحبه إلى هذا الحد ويرهب أى أحد أن يقترب منه؟ هل يتمتع كل ذو منصب في مصر بحماية مهما تجاوز وفسد؟ ولماذا أختار النظام وزيرا أتسم أداؤه بهذا القدر من الإنفعال والإنفلات وإنعدام الحكمة؟ وكيف أبقى عليه مع وجود كل هذه الشبهات والتجاوزات؟ ألا تقوم مؤسسة الرئاسة بالإستعلام عن الشخصيات التى تختارها لهذه المناصب العليا؟ إذا كانت لا تعلم فهذه مصيبة، وإن كانت تعلم فالمصيبة أعظم وأكبر. إقالة الزند بسبب زلة لسان جانبها الصواب، فهى لم تكن أكبر آثامه ولم يكن يصح أن تكون هى سبب إقالته. إقالته ومحاكمته واجبة وإن أتت متأخرة، وكذلك المساءلة لتعيينه فى هذا المنصب من الأساس. 20 مارس 2016