(١) في الصباح يمكنك أن تشرب فنجانًا اعتياديًّا من القهوة في بيتك، تستيقظ وتهرول إلى عملك بلا متعة، لكنك ستشعر بأشياء مختلفة لو مارست طقوسه على مقهى شعبي؛ يأتي النادل بكوب مثلج من الماء فتكتفي بقطرة واحدة تضعها على "وش" الفنجان، الذي استوى على مهل وسط "الرمالة"، ترشف متلذذًا لتكتشف في تفاصيل الرشفة الأولى خيوطًا متنوعة؛ قدر الخبرة الحاكمة لوقت نضج القهوة المنضبط وبندولية يد معلم "النصبة" وهو يعلو بالفنجان ويهبط ليكتسب طعمًا عرف سره طوال عقود، يقظة عقلك وطرد بقايا النوم من خيالك، وصلة سباب صامتة لطبيب الضغط الذي حذرك من مشروبك السحري، ولكل ماكينات القهوة الأمريكية ومندوبيها. لكن المتعة ستكتمل باستماعك لقاموس خفي سحري مغلق على القهوجية "المأّصلين" وهم يخاطبون بعضهم "قهوة سكتو للباشا سرفيس أعلى حاجة". والقاموس عنوان "للطائفة" توارثه المصريون وأضافوا إليه، منذ بواكير التاريخ، متنوع الوظائف، عبره يتم تلافي عيوب الصنعة دون أن يشعر الزبون، يبحثون عن الأجر، يحتجون على المقابل. أو يمارسون تذمرهم من الطعام كما ينطق الآلاتية "رخوة مأشفرة يا ريتنا ما رخينا". قاموس الطوائف، مغلق ومتمايز، لكن قابل للتعلم والقراءة، لأن باب الطائفة مفتوح لمن يحب أجواءها ويهواها. الطوائف الحاكمة الآن بات لها قاموسها الخاص، "معاليك" والجليل" و"الزحف المقدس"، و"نحن أسياد"، و"الشامخ". وبعض صفحات القاموس مشتركة مع طوائف موازية "بات لقب باشا وبيك" اعتياديًّا وشائعًا، في طائفة العسس المعاصرة، لكنها صفات ينهل منها "الشامخ" أيضًا. تأمل مثلا خطاب استقالة أحد "الزنود" الغاضبين الذي حظيت بلاغته على إعجاب الآلاف، لست بالطبع واحدًا منهم: يقول الرجل مترجيًا الزند الكبير: "إذا كان الوزير لا يحفظ عهد أبي، وقد رافقه لسنواتٍ يعبران عن ضمير القضاء في أحلك ما مرَّتْ به بلادنا، فهانت عندَه عظامُه إذ بَلَتْ -وإني من تلك العظامِ دمًا من دمٍ"، فالرجل يعتبر أن من حيثياته إزاحة الظلم عنه كونه ابنًا لشيخ من الطائفة، توارث دمه وعظامه. هذا "القاموس"على عكس قواميس الحرفيين لا يقدم خدمة، ولا يسعد الجمهور، بل يستدعي الضغينة، وينسف المساواة، والعدل، وهي مهمة كان من المفترض أن يقيمها ويحافظ عليها. "الزنود" بعد ثلاثين يونيو. (٢) المشلوح نبتة "ترييف سياسي" غزت مثيلاتها أروقة الحكم في مصر، تدريجيًّا منذ عبد الناصر، مع عبد الحكيم عامر تحديدًا، وتصعيده رجاله ثم محاولة التمرد، توسعت في عهد السادات، وباتت عنوانًا لسياسة معلنة اسمها "أخلاق القرية وكبير العائلة". الترييف انتكاس للمدنية، ظهر أيضًا بفجاجة مع مرسي، الذي كان هو نفسه يعبر عن أزمة ترييف داخل الجماعة، رصد ذلك بتوسع الباحث الفذ الراحل حسام تمام وهو يستعرض كيف تحولت الجماعة من جماعة مدينية قوامها الطبقة الوسطى والأفندية إلى "مجتمع متريف" تسود فيه العشائرية والإذعان للكبير، فيما تبدو اللوائح والقوانين مجرد مراسم. ترييف المشلوح انعكس في تصرفات "العمدية" الحريص على نصرة رجاله أولا ثم استكمال الشكل، أو تحويل النادي إلى مكتب خدمات وتأمين مستقبل.
تظهر نوعية الاشتباكات تلك؛ كأن يعترض على وزير سابق للعدل لأن الرجل ينتمي لمجلس الدولة، ولا بد للوزير الجديد أن يعبر عن الطائفة الحاكمة التي تضم الأغلبية. وهنا يصبح المنصب جائزة وليس تكليفًا، نفس نظرة كبير العائلة في الأرياف للمقعد النيابي، مهمته خدمة الأتباع، والحصول على تسهيلات ونصرة القريب، والاستفادة من كعكة السلطة. ليصبح القريب سيدًا والخادم المفترض كبير السادة، وحين يؤمر بترك مقعده، يتمسك بمكانه بفجاجة، إلى أن يزاح بفجاجة أكبر، يستسلم ، ثم تزدهر قيمة المكايدة السياسية حوله انتظارًا لجولات أخرى. وهذه بؤرة الترييف.