كانت سيارتنا السوداء اللامعة تطير فى الهواء خلال شوارع المدينة المزدحمة، مخترقة سيل الحرارة المتدفقة والظلام الحالك السواد بمصابيحها الأمامية. تردد صدى صوتكُ فى عتمة الصالون. تتواثب الأصوات الخفيفة وتغوص الأصوات العميقة فى الزوايا المعتمة. «عزيزى لا تفهمنى خطأ. أحيانا أنت تبالغ فى تحليلاتك، وتولى الكثير من الاهتمام لتعبيرات وجوه الناس، ولايماءاتهم، ونبرات أصواتهم. هذا بالطبع يشهد على ذكائك، لكنك مستغرق إلى حد كبير فى قراءة الناس. إلا أن أصوات وهيئة الناس لن تقدم لك سوى لمحة من العقل البشرى، وبعد ذلك لن يتبقى لك سوى نفسك هائمة فى متاهة النفس البشرية -هنا توقفت هى لحظة مستمتعة بمذاق ترقبى ثم أضافت- الشىء الحقيقى الذى من شأنه أن يعرفك أى نوع من الأشخاص يقف أمامك هو الأيدى». أخذتُ ما إن انتهت من قولها أختلس النظر إلى قبضتيها الدقيقتين الممسكتين بقوة بعجلة القيادة. كانت بشرتها تلمع تقريبًا كالجرانيت وتعكس بالتناوب خطوط العتمة والبقع الصفراء الصادرة من أعمدة النور فى الشوارع. أخذتُ أتأمل بتمعن أصابعها الطويلة النحيفة بأظافرها المصبوغة بالأحمر. لم أستطع العثور على تجعيدة واحدة صغيرة ربما بسبب الظلام الحالك. «هل سمعتَ عن قراءة الكف؟». لم تحد بعينيها عن مراقبة الطريق، ولم تكن لدى فرصة حتى للرد على سؤالها إذ واصلت تقول هل تثق فى قراءة الكف؟ استكشاف مصير وحظ الإنسان فى الحياة من بضعة خطوط على كف؟ إنه أمر بائس. لدى نظرية أخرى أفضل، لكن لا علاقة لها بخطوط الكف والنجوم ومستقبل الناس. لزمتْ الصمت مرة أخرى. ثم قالت بصوت منفعل كصوت خبير متخصص يوشك على عرض مشروعه على جمهور «قد لا تبدو المسألة صعبة، لكنها بحاجة لوقت لمراكمة المهارة. باختصار فإن كل ما تحتاج لمعرفته هو الاهتمام دائمًا بثلاث علامات للأيادى شكل اليد والأصابع والأظافر. وعلى هذا الأساس يمكنك أن تحدد إلى أى فئة ينتمى الناس بحسب منشأهم ومهنتهم وشخصياتهم. بالطبع أنت تفترض الآن أن هناك أنواعًا عديدة من الأيدى. ولكى تكون لديك فكرة تقريبية سأحدثك عن الأنواع الأكثر انتشارًا من الأيدى. على سبيل المثال هناك يد جميلة مخروطية الشكل بأصابع مدببة. المحظوظون من أصحاب هذه الأيادى هم عادة من الفنانين أو من أناس يتوقون إلى الجمال». العالم الغارق فى الظلمة يتبدل بسرعة أمام زجاج السيارة مطموسًا فى العتمة. المبانى. الناس. واصلتْ هى كلماتها الجارحة من شدة دقتها «وهناك ما يسمى اليد البسيطة. من غير المبهج النظر إليها. الكف عريضة. أصابع سميكة وقصيرة. هذا النوع ستجده أساسًا بين الناس من الطبقة العاملة، حيث النشاط الذهنى منخفض، والميل إلى الغضب والعنف، وانعدام الخيال، بكلمة واحدة: الناس الخشنة». فجأة أخذت الكلمات تفقد شكلها وتصبح خطوطًا وألوانًا وصورًا. الآن أستطيع أن أرى بوضوح القسوة المربعة البنية، والغضب الأحمر الدموى فى شكل كرة. ضبطتُ نفسى وأنا أتفحص يدى. أصابع يدى التى تفتقر إلى الطول فجأة اكتسبت اللون النبيذى. كانت سيارتنا تندفع فى شوارع المدينة المزدحمة، والسرعة والغبار والصور المتناقضة تضغط على رأسى. لم أستطع التفكير فى أى شىء ما عدا تلك الفكرة المحيرة التى تقيس العالم بالأيادى. وقعت عيناى المشوشتان على رجل واقف على الرصيف ينيره من اليمين ضوء برتقالى خافت. لم يكن ممكنًا أن أميز طول أصابعه أو عرض كفيه، فقد مرت السيارة بالقرب منه فى ثانية واحدة. كل ما تبقى من ذلك الرجل هو صورة يده الممتدة قابضة على حفنة من ورق الإعلانات أو الاحتجاجات لتوزيعها. هذه الليلة. هذا الجو الخانق. كلماتها ويد الرجل التى ترتجف قليلًا من الإنهاك، كل ذلك أمسى مثل حمم ذائبة تكتسح كل ما أمامها بما فى ذلك وجودى ذاته.