لن تكون هناك علاقة أخذت أكثر من شكل ومنحنى خلال عدة عقود من حياتى: قرب ثم بعد والعكس، حب ثم كره والعكس، انجذاب ثم نفور والعكس؛ مثل علاقتى بالسجائر. أعتقد أن علاقتى بالتدخين تعتبر من العلاقات الكاملة بمعنى الكلمة، لها خطوط موصولة وأخرى مفصولة تتخللها، وهذا ما جعلها تتحول فى النهاية إلى فكرة أو مفهوم أو نصب تذكارى امتص الكثير من لحظات القلق والزهق والحب والأنانية واللذة ومعاداة السلطة، والأخوية، وغيرها من تلك اللحظات الفارغة أو الكثيفة. لذا فالتدخين متشعب تحت جلد الأمل والعادات والمفاهيم التى صاحبت هذه المشاعر، تتوالد هناك تلك الطبقات القطنية من الدخان، التى تشبه السحاب بكثافتها وسموها وقدرتها على تذويب المشاعر وإلباسها ثوبا أكثر خفة. إحدى حفلات أم كلثوم كانت السجائر مثل الرفيق الصامت الذى اختاره المليارات من البشر، منذ اختراعها فى منتصف القرن التاسع عشر تقريبا، ليرافق ويشهد على حاجات نفسية مبهمة، ليرافق لحظات السأم والفرح والحزن والملل، والتخمة، والفراغ، والامتلاء، والدونية أمام الحياة، والتعالى عليها، وبدون أن يفرض نفسه. وفى الوقت نفسه يتبخر فى الهواء ولا يعود له من أثر. ربما هذا الرفيق الأثيرى، المتلاشى مثل الشبح، والذى لا يترك أثرًا بعد ذهابه هو الذى كنا نحتاج إليه من عزاء. لقد ملأت السجائر أوقاتا كثيرة ما كان يملؤها أحد غيرها بهذه الرقة والتفانى والغيرية، كأنها تهب نفسها بدون مقابل، تحترق وتتحول إلى رماد. رمزية الاحتراق كانت كامنة فى فعل التدخين، هذه النار الصغيرة التى نحملها فى جيوبنا وعلى أطراف أفواهنا، ربما كانت تعبر عن رمز لنار أخرى محشورة فى سراديب كهوف ممرات حياتنا النفسية، وكانت تريد أن تنعتق. ربما كان هناك إسقاط ما، فى أن نستبدل احتراق السجائر باحتراقنا الشخصى. هى الضحية اليومية التى نعلق عليها خيباتنا، وهى أيضا بداية لفكرة الموت، وإيذاء الجسد، وإن تخفى تحت أقنعة اللذة. ولكن هذا الاحتراق اليومى لا شك أن له مستودعا فى مكان ما تتأجج فيه هذه النيران بشكل حقيقى، وما نحن إلا حاملون قبسا يوميا منه. رفيقة حياة صامتة سجائر إخوان كريازى كان لى قريب يكبرنى فى السن، ويعيش وحيدًا على المعاش. من عاداته أن يدخن سجائر "سمسون" وهى سيجارة رفيعة وبدون فلتر، أو "كوتاريللى، معدن ممتاز". طوال جلستنا، التى تمتد لساعات حول فيلم نادى السينما يوم السبت من كل أسبوع، حيث كان ميعاد زيارتى له؛ لا يمكن أن أرد يده التى يمدها لى بسيجارة تلو الأخرى. لم أر أحدًا ينفخ نفسًا فى قمة السيجارة المشتعل بهذه القوة. هذا النفس الزهقان الرافض لكل شىء والناقم على الحياة وحظه فيها، والذى يخرج من جوفه ليصوبه على رأس السيجارة المشتعل فتزداد اشتعالا، أو احتراقا. هناك تعجل لنهاية سريعة، سواء للسيجارة أو للحياة نفسها التى تعلقت وتجسدت فى هذه اللحظة بهذا الضوء المشتعل. كانت السجائر بالنسبة له عزاء حقيقيا، وفى أيامه الأخيرة انفصلت عنه وتنكرت له، فقد كان يشعل أكثر من سيجارة، وينساها جميعا فى المطفأة، ليشعل أخرى جديدة. السيجارة أيضا كانت رفيقة حياة صامتة للحظات الخيال وأحلام اليقظة، عندما كانت هناك سوق مزدهرة لأحلام اليقظة. تداخلت الأحلام مع ظلام صالات السينما مع الصورة. أصبح التدخين فريضة داخل أفلام الويسترن "الطيب والشرس والقبيح، وأفلام الحب (الحياة للحياة)، وأفلام الأكشن (الشيطان يعيش مرتين) لجميس بوند، وغيرها من أشكال السينما المتفجرة المطمئنة للمستقبل وطيبته وتمكنها منه". بل وتقذفه بمقلاع الخيال، بحمم إنسانية وبسخرية لاذعة وبصلابة فكرة الحب. سواء فى سينمات الدرجة الأولى مثل "أمير" و"مترو" و"ريالتو"، أو سينمات الدرجة الثانية مثل "الهمبرا"، التى كانت متخصصة فى نوع قديم من الأحلام التاريخية: "ماشيست الجبار" و"سبارتاكوس محرر العبيد". كانت السجائر هى رفيقة هذه الانتصارات والتحررات. ولم تكن دخلت بعد كرفيقة للهزائم، على الأقل فى مستوى تمثلها الثقافى والخيالى. كان زمن الهزيمة قصيرا بالقياس بزمن الانتصار، حتى لو كان هذا عكس حقيقة الواقع. كانت السجائر إحدى عملات الرهان على المستقبل. تدخين السجائر أثناء الفيلم كان يفضى إلى نوع من اللذة كالاحتلام الطبيعى الذى يأتى بدون جهد أثناء النوم عكس ممارسة العادة السرية، وقريبة فى أحاسيسها من تدخين سيجارة الصباح فى الحمام. تشابك اللذة مع الصورة المعروضة على الشاشة وفى حضور هذا الشبح الذى تتغير أشكاله، وفى النهاية يصعد لأعلى، حيث المكان الذى تأتى منه هذه الأحلام والاحتلام. هناك ثقب، أو كهف جنسى، كانت تفتحه السجائر أو تطرق على بابه بدون أن تتعمد أن يجيبها أحد. ولكن للأسف، صمت رفقة السجائر، بالإضافة لكثافة حضورها فى حياتنا، جعلها رمزا لحب غير جدلى، من جانب واحد، وفى اتجاه واحد. تمتص متعة الآخر، أو سأمه، بدون أن يتعاطى معك أى إشارة، بل صمت تسحبه لقاموسك النفسى لتضع بدلا منه خيالات أو صورًا أو كلمات مناسبة. ربما كان حب التدخين بصورة ما صورة من صور حب الذات، وهدهدتها. السجائر إحدى علامات حداثة هذا الجيل كان أبى مدخنا معتدلا، هو وأغلب أصدقائه. ينتمى إلى جيل عاش شبابه فى الأربعينيات وفتح صدره لكل أنواع الأفكار والمشروبات. أعتقد أن السجائر كانت إحدى علامات حداثة هذا الجيل وتوثيق روابطه النفسية مع الغرب. مثل فك رموز حجر رشيد، كانت السجائر إحدى نتائح الاحتكاك بالغرب، وانتقلت هذه العادة الحديثة عبر البعثات المسافرة والآتية من فرنسا، حيث تم اختراعها هناك عام 1840. هذه الحدائة النفسية استقرت تمامًا فى جيل الستينيات، خاصة فى حفلات أم كلثوم، وهى معبقة بروائح هذه النيران الصغيرة والأدخنة والسحابات التى تتكاثف فى الصالات، كأنهم ذاهبون للاستمتاع بالتدخين أولا ثم الاستمتاع بصوت أم كلثوم، أو على أقل تقدير الاثنان فرصهما متساوية ومتكافئة فى الاستمتاع، أم كلثوم والسجائر. فى ذلك الوقت لم يكن المرض ملحا كأحد حراس بوابات اللذة الأشداء. هناك دائما ما يجعلك تنساه وتدخل دون أن يراك، وتمارس تلك اللذة الجماعية بدون حراسة أو زجر من طرف المستقبل. كان هناك ما يؤجل الخوف من الإصابة بالسرطان، مثلا. وربما كان مرض السرطان نفسه مغلفا بطبقات كثيفة من الغموض ومن سُحب السجائر، تحجبه تماما عن عين خيال اللذة. لم يأخذ الموت بعد صورته الحالية ك"هادم اللذات ومفرق الجماعات". إعلان غير مدفوع الأجر إعلان هدى سلطان عندما رأيت تلك الصورة لأربعة مواطنين، تقريبا، من إحدى قرى الصعيد، (انظر الصورة المرفقة) يشربون السجائر داخل إحدى استوديوهات التصوير، لم أشك لحظة أنها صورة حقيقية، وغير مصنعة، أى أنها تعبر عن رغبتهم فى التصوير فى هذا الوضع وليس صناعة مشهد فى فيلم. فبالنسبة لهم كانت هذه السجائر وتدخينها وطريقة وضعها فى أفواههم بمثابة لحظة انتقال، وإحدى علامات الامتياز، لذا تجدها دخلت الصورة فى صورتها المثالية، بالإضافة إلى الغنج الذى يتعاملون به معها، احتراما وتبجيلا وتدليعا. صورة محملة بالضحك والسخرية والمفارقة أيضا. هؤلاء الأربعة، بالإضافة إلى المصور، كانوا يريدون أن يخلدوا علاقتهم بالسجائر، هذا الاختراع، داخل الاستوديو مثل صور الزواج وميلاد الأولاد، وصور العائلة النهرية التى تجمع أكثر من جيل. "الغريب" على المشهد ليس جلاليبهم أو تسريحة شعورهم، بل طريقة وضعهم للسجائر فى أفواههم. لم يستقر بعد شكل التناول أو التعامل الطبيعى، غير الملحوظ، مع السيجارة. كأنهم يصورون إعلانا عن السجائر، مستخدمين أسلوبا فكاهيا لحجب خطورتها وإدخالها وسط نسيج من الخيال الضاحك والصداقة والتضامن. كما تدخل سيجارة مارلين مونرو فى الخيال من بوابة الجنس والرغبة. أحدهم فى الصورة يمسك، تقريبا، بولاعة "رونسون" وهى الموديل الحديث فى بداية السبعينيات، وهو على وشك إشعال سيجارته، ربما هى اللفتة المختلفة لجعل الصورة تبدو أكثر طبيعية. وربما، فى ظنى أن يكون أحدهم، أو أكثر، لا يدخن، ولكن السيجارة كانت تشكل علامة ما، ذكورية على الأغلب، مثل موضة الشوارب تماما. إعلان سجائر فاتن حمامة مع زوجها عز الدين ذو الفقار وحتى الأربعينيات، من القرن الماضى، ظلت إعلانات السجائر متجاهلة النساء، حتى ظهور بعض الممثلات مثل فاتن حمامة وهدى سلطان على الإعلانات. وأعتقد أنها إحدى علامات المعاصرة فى ذلك الوقت، كونها رافقت تحولات اجتماعية تخص النساء، بجانب ظهور أجيال من الجامعيات وبجانب الثورات على المستعمر الإنجليزى، ونمو النشاط السياسى والاجتماعى بشكل عام. وكان تمصير صناعة السجائر، التى أسسها الأرمن فى مصر، أحد التحولات حتى عهد عبد الناصر. ففى البداية كانت إعلانات السجائر تستهدف الرجال من الطبقات العليا، ثم مع ثورة 19 أصبحت هناك شركات وطنية لصناعتها، وتوجهت إلى طبقات العمال، وأصبحت إحدى علامات الوطنية تدخين سجائر" بيت الأمة". بدايات علبة سجائر ماتوسيان جربت السجائر مبكرا. كانت كالقدر الذى سيصادف المراهقين حتمًا مثل التجارب الجنسية السريعة، ستحضر التجربة فى أى صورة وبشكل غير متوقع، وما عليك إلا أن تستسلم لها. كان لى صديق يسير، فى نهاية الستينيات، بجوار شريط القطارات المسافرة للقاهرة ويجمع أعقاب السجائر الطويلة التى رماها المسافرون. من البداية كنت أعلم خطورتها على صحتى كونى أعانى من حساسية صدرية وبعض أزمات ضيق التنفس، ولكنى وجدت لها مكانا مستقطعا خاليا من تلك الأزمات، وكذلك خاليا من الخوف من المستقبل عندما تنتصب فى خيالك صورة الطبيب وهو يعرض أشعة صدرك للضوء ويصارحك بالحقيقة، التى انتظرتها بجوار أحلام اليقظة التى أنعشتها أدخنة السجائر. * مقال "صناعة الدخان فى مصر"- نادية مبروك- بوابة فيتو 23 يوليو 2015. * "قصة السجائر فى مصر خلال قرنين" - من محمد على تاجر الدخان إلى كيلوباترا بأوامر عبد الناصر. أحمد يوسف- "المصرى اليوم لايت". 2 مارس 2015. * تاريخ السجائر فى مصر – ويكيبيديا- الموسوعة الحرة.