برؤية المشهد بوجه عامّ دون الدخول فى التفاصيل، وبعيدا عن النُّواح السياسى الذى نمارسه يوميًّا تجاه الإخوان ورئيسهم مرسى. بعيدا عن كل ذلك، ما يحدث الآن فى مصر هو فى مصلحة الأمة المصرية، ومبشر بمستقبل باهر لأبناء تلك الأمة العظيمة، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم. الإخوان خلال ثمانين عاما كانوا يحضِّرون لتلك اللحظة. لا يهمّ ما الطريقة التى جاؤوا بها، تزويرًا كانت أو بالعمالة للأمريكان. الغاية تبرر الوسيلة. لكن يبدو أن الدولة البليدة التى أسسها مبارك بهتت عليهم كما بهتت على الجميع فى مصر، وصعدوا للحكم وهم يظنون أن كل شىء انتهى وأن المشوار الطويل الذى بدأه البنا وصل إلى نهايته ولم يعرفوا بتفكيرهم المحدود وخبرتهم الضئيلة وغبائهم وغرورهم أن المشوار من هنا قد بدأ. فسلكوا سريعا وفى اجتهاد طريق النهاية الحتمية فى تاريخ مصر. وتلك هى الفائدة الكبرى لمستقبل مصر. صحيح هى كارثة للدولة على المستوى القريب. لكن عما قريب لن تجد إخوانيًّا واحدًا يجهر بأنه إخوانى أو يفخر بأنه منضمّ إلى الجماعة. الناس ذاقت التجربة وعرفوا مرارتها ورأوا بعين رأسهم دون تدخل من الدولة حكم الإخوان الفاشل الانتهازى. وذاقوا مرارة الاحتياج والتسول وندرة الخدمات، أمنًا وبنزينًا وسولارًا وغازًا وبوتاجازًا وكهرباء. وفى الطريق النقص الحاد للمياه. وتلك هى النقطة الفاصلة التى لن تُبقِى ولن تذر. لم يرَ الناس سوى ألعاب بالفم. تصريحات ووعود وعوج ألسن لزوم الحديث بالدين. ولم يروا منتجًا واحدًا على الأرض أقامته دولتهم يقول للناس وللزمن هذا ما بناه الإخوان. بل يرى الناس أمام أعينهم كل يوم شيئًا ينهار. أمامهم كل أعمدة الدولة تتهاوى، إما بالتآمر وإما بالأمر المباشر. وقد مسّ الناس ما يضمره الإخوان للجيش، وهو المنطقة الحساسة لديهم. فالجيش من الثوابت ومن العقيدة المترسخة فى وجدان الشعب، والمساس بها من المحرمات حتى لو كانت قيادات ذلك الجيش فاسدة ومنهزمة كما كان الحال فى النكسة. إلا الجيش، ومن بعده الأزهر ثم الكنيسة، لا بد أن يعرف الإخوان أن المصريون لن يقبلوا مرة أخرى تجربة حكمهم ولا حكم مبارك، ولا الوجوه التى كانت حوله. لذلك على شفيق أن يتخلى عن أحلامه وآماله وطموحه بالعودة إلى مصر مرة أخرى ليحكمها. كل الوجوه القديمة والوجوه الإخوانية لن تظهر فى الصورة مرة أخرى فى السنوات القادمة وإلى الأبد. كل الفلول لا بد أن يتخلوا عن أملهم فى العودة للحياة السياسية إلا من أجل لقمة العيش فقط والحق فى الحياة. وعلى الإخوان أن يستعدوا للحظة الفاصلة التى يلفظهم فيها الأمريكان ومن قبلهم الشعب المصرى. لذلك فهم الآن متوترون إلى أقصى درجة من انحدار شعبيتهم كما اعترفوا هم. سيؤجلون الانتخابات البرلمانية وأى انتخابات حتى ينظروا كيف تعود شعبيتهم، وهى لن تعود. سيبحثون عن الخروج الآمن. لكنهم فى مأزق لا مثيل له، الأمريكان يضغطون من أجل سرعة الانتهاء من القضية الفلسطينية. ولا بد أن يكتمل البرلمان المصرى، وتكوين وزارة متجانسة تضم جميع الأطياف السياسية، وهو الأمر الذى من أجله ذهبت السفيرة الأمريكية آن باترسون لمقابلة السيد البدوى رئيس حزب الوفد وجلست معه ثلاث ساعات كاملة تقنعه -أو تأمره- بأن يدخل الحزب الانتخابات ولا يقاطعها بأى شكل وبأى ثمن. ووافق البدوى وأعلن أن حزبه سيخوض الانتخابات. وقد جلس معه من قبل سعد الكتاتنى لإتمام صفقة توزيع الدوائر وإعطاء مقاعد ل«الوفد». وبدخول الوفد الحسبة السياسية لا يهم أى فصيل آخر بعدها. فهو الحزب الليبرالى القديم صاحب الشعبية الجارفة عبر تاريخ مصر. ووقتها ستتمّ الانتخابات ولن ينظر أبدا إلى بقية الأحزاب الليبرالية الجديدة مهما كانت أسماء رجالها. «الوفد» يكفى جدًّا. ولم تقتصر الاتصالات على السفيرة الأمريكية، فقد قام اللواء العصار بالاتصال بنفسه ببعض رموز المعارضة للموافقة على ترشح رجال منهم للوزارات فى التعديل الأخير، كما طلب منهم أن يخوضوا الانتخابات ولا يقاطعوها. هذا ما تم فى السر، أما العلن فقد أعلنها القائد العام نفسه على الجميع. انزلوا وقفوا عشر أو خمس عشرة ساعة وأنا أحميكم، واختاروا ما تريدون. قالها علنًا. الأمر الأمريكى سينفَّذ لا محالة، والجميع سيخضع، لأنه لا يوجد وطنى واحد صاحب قرار. قد يكون هناك من يُضمِر فى صدره الوطنية أو يخفى فى قلبه وطنيته لكن لا يملك القوة والقرار والجرأة والشجاعة ليقلب الترابيزة على الجميع بمن فيهم الأمريكان. كل الموجود لم يحارب، ومن لا يحارب يخشَ الخسارة حتى لو كانت تافهة، أما من حارب فالهدف هو الأهم دون النظر إلى الخسائر. وكل من ترونهم لم يحاربوا ولم يدخلوا حروبًا على جميع المستويات وكلهم اعتادوا تلقِّى الأوامر ولم يعتادوا اتخاذها. أكبرهم كان يشير ويقترح فقط، لكنه لم يتخذه وتَحمَّل أعباءه. الشعب هو الفيصل فى الفترة القادمة، الحكم للشعب. الشعب هو المعلم، وعندما يتخذ القرار ويراهن عليه فهو لا يخطئ ولا يخسر، كما أنه لا يغفر ولا يرحم أبدا. والكلام للجميع.