لجان خالية إلا من موظفين يعانون من آثار النعاس، ناخبون ولا وجود لهم إلا فيما ندر، عملية انتخابية يعرف الجميع أنها باردة، تسير بلا حماس، مجلس النواب يولد كما يجب أن يكون، فتور وملل وإحساس باللا جدوى، مجلس غريب، يتأهب أعضاؤه في مجملهم لتقليص سلطاته، ولنقض دستوره، ثم يدعون بعد ذلك الشرف والنزاهة والوطنية، ولكن الأمر في قسم أول دمنهور كان مختلفًا قليلاً، لم يكن هناك مرشح ولكن يوجد ناخبون. وبأعداد كبيرة أيضًا، كأنهم قد تسربوا من بقية اللجان، أكثر من 18 ألف ناخب دفعة واحدة، جاؤوا جميعًا في الساعات الأولى وأدلوا بأصواتهم الصحيحة لصالحه، اختاروه هو بالذات من بين كومة من مرشحي الفردي بلغ عددهم 52 مرشحًا، بداية مدهشة لمرشح ليس له برنامج ولا حضور جماهيري ولا وجود جسدي، فقد تم ذلك كله والمرشح خلف القضبان، بعيدًا عن ناخبيه المخلصين. واقعة انتخابية من أغرب الوقائع، بطلها السجين مبروك محمد زعيتر، مدير مدرسة سابق ومربٍّ فاضل، ولكن هذا لم يمنعه من أن يكون محترف انتخابات، فقد فاز بعضوية مجلس الشعب 2010 المشبوه، الذي كان أحد أسباب ثورة يناير، ولم يمنعه أيضًا من أن يتدخل في مشاجرة بين عائلته وعائلة أخرى وأن يقطع الطريق ويحرض على القتل ويقتني أيضًا سلاحًا ناريًّا، تغير مدهش في شخصية المربي السابق، وعندما تم القبض عليه وأصبح مهددًا بالسجن لمدة خمس سنوات تفتق ذهنه عن تلك الحيلة، تذكر خبراته السابقة مع الحزب الوطني الذي كان في حد ذاته مدرسة في الخداع الوطني، قرر أن يرشح نفسه في الانتخابات لعله يظفر بنوع من الحصانة تحميه من السجن، وهذا هو الشعار الذي استغله أنصاره في الخارج، صوتك سوف ينقذ بريئًا، لا يهم البرنامج الانتخابي هنا، فكل المرشحين لا يملكون شيئًا، ولا حديث زائف عن الديمقراطية، ولا وعود بحل المشكلات فقد تعود الناخبون على اختفاء المرشح فور فوزه، على الأقل كانوا يعرفون المكان الدائم لهذا المرشح، سجن دمنهور العمومي، مزايا لم يظفر بها المرشحون الآخرون، لقد أسعدت النتيجة أنصاره فركبوا سياراتهم وأخذوا يطوفون حول السجن وهم يطلقون آلات التنبيه، ليسمعوا المرشح أصداء فوزه وهو داخل زنزانته. لن تكتمل اللعبة بالطبع، فلن يرضى بقية المرشحين بالهزيمة، وسيستغلوا كل الثغرات القانونية وغير القانونية لإبعاده عن الانتخابات، ولكن هذا لا ينفي حقيقة التعاطف الذي حظى به، وأن البعض ينظر إليه كبطل، سيخلص نفسه أولا، ثم يخلصهم بعد ذلك؟ ولكن ما سر هذا التعاطف، وهل هو ظاهرة طبيعية؟ ربما كان السبب المباشر هو تاريخه الشخصي، فمن المؤكد أن للسيد زعيتر تاريخًا مسبقًا، وصورة ثابتة في الأذهان رغم كل ما حدث، مدير المدرسة السابق، والنائب السابق، لم يؤثر ما فعله ولا سلوكه الإجرامي على هذه الصورة، وحسب ما أشاعه أنصاره فهو لم يرتكب جريمة حقيقية، والقوانين دائمًا هي الظالمة، كل ما فعله هو أنه وقف بجانب عائلته، وحرض على من يحاول الاعتداء عليها، واقتنى سلاحًا ليدافع عنها، الولاء للعائلة هنا يحظى بالأولوية، ومهما كان نوع القانون فهو يعجز عن فهم التعاطف العائلي، ولكن الناس يفهمون ويقدرون، خاصة وسط علاقات قبلية كالتي نعيش فيها، على الزيبق خرج ليثأر لمقتل أبيه، وتعاطف الناس معه لأنه كان يقاوم المماليك، وهم حفنة من الظلمة والفاسدين كانوا يحكمون مصر، كان من السهل على الناس أن يتوحدوا معه وأن يحولوه إلى بطل شعبي، كان سلاحه الوحيد هو عقله، لذلك لجأ إلى الحيلة والملاعيب، وهذا ما حبب فيه الناس، لأنه لم يلجأ للعنف إلا فيما ندر، لقد خرج عن القانون حقًّا ولكنه لم يخرج عن الطبيعة البشرية، كان لصًّا شريفًا كما يقال، رغم التعارض بين اللصوصية والشرف، أما أدهم الشرقاوي فقد كان أكثر عنفًا، وكانت له عصابة كبيرة، ولكنه وجه عنفه ناحية الإنجليز الذين كانوا يحتلون مصر، أو هكذا يحلو للناس أن يصنفوه في مخيلتهم الشعبية، لقد خرج للثأر من أجل موت عمه، وتعرض للخيانة أكثر من مرة، وكانت نهايته عندما وشى به صديقه بدران، رغم أن بدران هذا قد عاش طويلا وأنكر هذه التهمة فيما بعد. في غياب المثل العليا والأشخاص التي يمكن أن تقتدي بها، فإن مشاعر الناس تنجرف في مسارات خاطئة، تبحث عن أبطال خارج السياق، يُعجبون بالمجرمين والخارجين عن القانون، ويضفون عليهم هالة من الرومانسية، بل إن مفهوم البطولة ينحط أحيانًا ليشمل السبابين والشتامين الذين يظهرون على شاشة التليفزيون، وهم يثيرون الإعجاب بألفاظهم الصادمة رغم سذاجتهم السياسية، ولكنهم ينجحون فقط في الخروج عن الذوق العام ويتظاهرون بتحدي القانون الذي نعجز عن تحديه، وبذلك يثيرون التعاطف ومن ثم الإعجاب، ولعل أشهر الحالات التي يتعاطف فيها الضحايا مع المجرمين هي التي حدثت في السويد في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فقد أقيمت مصحات لمعالجة الآثار النفسية للذين تم اعتقالهم داخل معسكرات النازي، وكان العديد منهم قد تعرضوا لمعاملة وحشية، للتعذيب والجلد والحرق في أفران الغاز، وتعرضت النساء بوجه خاص للاغتصاب المتكرر، لكن استجابتهم جميعًا للعلاج كانت مختلفة عن المتوقع، لم يكونوا حانقين على سجانيهم ولا الذين قاموا بتعذيبهم، كانوا قد تحولوا داخل المعتقل من حالة الخضوع المتبرم إلى الإذعان الطوعي والمطلق، أصبحوا ينظرون إلى جلاديهم بنوع من الرضا والإعجاب، سقطت من ذاكرتهم كل لحظات القسوة والرعب، تذكروا فقط لمسات التعاطف على ندرتها، كلمة طيبة أو بادرة رحمة كانت تفتح أمامهم طاقة أمل في مواصلة الحياة، حتى النساء تناسين قسوة الاغتصاب، وبقيت في داخلهن ذكرى لحظات الممارسة الحسية ومشاعر الرغبة التي غمرت أجسادهن رغمًا عنهن، بل إن البعض منهن لم تستقم حياتهن الجنسية بعد ذلك إلا بوجود قدر من الخشونة والقسوة في الممارسة، إنها الظاهرة التي يطلق عليها العلماء نظرية "المسافة النفسية" وهي تأخذ مكانها عندما نجد من الضروري أن ننفصل عن الأحداث والوقائع المؤلمة، أحيانًا يأتي التباعد بصورة طبيعية، ينحسر الألم ويتحول إلى ذكرى، تلين المفاهيم التي نعتنقها، تبرد عواطفنا ونمتلك القدرة على نزع أنفسنا من المواقف المضطربة عاطفيًّا، مسافة نحتاج إليها حتى لا ندور وسط أشجار الغابة إلى الأبد، ولكن علينا أن نتراجع عدة خطوات للخلف حتى نرى الغابة بأكملها، هذه المسافة النفسية تجعلنا نضفي طابعًا من الرومانسية والحنين على كل ما مضى وغاب، وتقوم بدور ورقة الترشيح الذي تذيل بعض التفاصيل وتؤكد على الأخرى، وتعمل المسافة النفسية هنا ضمن أشياء أخرى على حمايتنا من الاكتئاب، وبقية الأعراض القريبة التي تتكالب علينا وتبقينا داخل تفاصيل الماضي المؤلمة بدلا من أن تدفعنا للأمام. وقد تأكدت هذه النظرية فيما بعد في السبعينيات وأطلق عليها "متلازمة ستوكهولم"، فقد قامت عصابة من اللصوص بالسطو على أحد البنوك في هذه العاصمة السويدية عام 1973، واحتجزوا عددًا من الرهائن داخل البنك لمدة ستة أيام كاملة، وخلال هذه المدة نشأ نوع من التعاطف بين الرهائن والخاطفين، فقد أعجب الرهائن بقدرتهم على الثبات في وجه الشرطة التي تحاصر المكان، وعدم رضوخهم للتهديدات، وتشاركوا معًا لحظات القلق والخوف من المداهمة ووقوع الضحايا، ترشحت كل تفاصيل الخوف والتوتر والقلق والاحتجاز، ولم يبقَ غير لمسات التعاطف، وعندما تم تحرير الرهائن أخيرًا رفضوا الشهادة ضد الخاطفين، لم يحاولوا إدانتهم رغم أن المحكمة أدانتهم، وفي صبر طويل انتظرت امرأة من الرهائن رجلا من الخاطفين في صبر وتبتل حتى خرج من السجن وتزوج بها. الأمر نفسه تكرر عندما تم اختطاف "باترشيا هيرست"، وهي ابنة أحد الناشرين الأثرياء في مدينة نيويورك، ثم اكتشف فيما بعد أنها قد انضمت لخاطفيها وقامت بالسطو معهم على أحد البنوك، وقيل وقتها إن السبب هو الجنس، أو المخدرات، ولكنها كانت قد ثارت على طبقتها البرجوازية ووقعت في غرام خاطفيها. بعض من هذا، حدث في انتخابات دمنهور، وحظى السيد زعيتر بتعاطف لا يستحقه، ولم يكن هذا غريبًا على وغد مثله، فهذا زمن الأوغاد.