استمعت إلى صوت المطربة ريهام عبد الحكيم، للمرة الأولى خارج مصر، كنت أغطى فاعليات المعرض الدولى للكتاب فى فرانكفورت، عندما كان العالم العربى هو ضيف الشرف فى هذا المعرض، كانت موجودة ضمن أمسية ساحرة، جمعتها مع رفيقتها مى فاروق، على وقْع أوتار نصير شمة العازف العراقى الشهير. كانوا يتغنون بأبيات من أشعار «أدونيس» الصعبة، العصية على التلحين، ولكن الثلاثة صوتًا ووترًا حوّلوا الكلمات إلى أجنحة سحرية تطير بنا فى الفضاء، كان فى الحضور بعض من عرب المنافى، ولكن القسم الأكبر كان من الجمهور الألمان الذى لا يعرف اللغة، كنت أراقب وجوههم وقد تحوّل تساؤلهم إلى نوع من الاندماج التدريجى، بدا عليهم أنهم قد استساغوا إيقاعات العود الشجية، ومسّهم شىء من سحر الحناجر الشابة رغم أنها تترنم بكلمات لا يفهمونها، أصبح الفن خالصا بلا وسيط، تتلقاه بإحساسك قبل أذنيك، تتشربه فتحس بروحك وهى تقشعر، وتتفتح داخلك منابع من شجن إنسانى، كنت سعيدا لأن مصر ما زالت عامرة بالأصوات الجديدة، مثل ريهام عبد الحكيم، ناضجة رغم صغر سن أصحابها، جيدة الإدراك، تتذوق الشعر، وتتفهم معانيه، حتى ولو كان الشاعر هو أدونيس، وعندما سألت عنها قالوا لى إنها واحدة من اكتشافات الملحن عمار الشريعى، رحمه الله، أى أنها كانت من اختيار رجل ذواقة، لا يباريه أحد فى عالم الصوت، ولا يرى العالم إلا من خلال أذنيه، وأنها قد شاركت فى مسلسل أم كلثوم الشهير حيث كانت تلعب شخصيتها وهى صغيرة وتترنم بألحانها المبكرة، لم أكن قد تابعت المسلسل بشكل منتظم، فقد كانت أم كلثوم فيه مثالية لدرجة تفقع المرارة. المهم أننى تابعت هذه المطربة من بعيد، أغنيات متناثرة، حفلات مسجلة، أغنيات لأفلام أو بداية مسلسلات، وشاهدتها فى أحد مهرجانات الموسيقى العربية، وعرفت أنها فازت بجائزة مسارح الأوبرا فى سن صغيرة، وكانت فى هذا تشبه أم كلثوم التى بدأت هى أيضا الغناء فى سن مبكرة، ولكن شتان بين مسيرة خريجة الكونسرفتوار التى تقف على مسرح الأوبرا، وبين موهبة أم كلثوم الفطرية التى كانت تطوف قرى مصر ونجوعها لتؤكدها، كانت ريهام موهبة جيدة، ولكنى كنت أشعر أنها ما زالت فى حاجة إلى فرصة حقيقية، تكسر فيها دائرة الظل المحكمة حولها، فى حاجة لأن تخرج من آذان الناس لتدخل قلوبهم. ثم جاءت الفكرة البديعة التى أهدتها الدكتورة إيناس عبد الدايم مديرة الأوبرا إلينا، نحن قدامى السميعة، حين قررت أن تعيد إحياء حفلات الغناء التى كانت أم كلثوم تتألق فيها كل شهر، وبدا أن هذه العازفة البارعة على آلة الفلوت، بعد أن طافت العالم تنشر ألحانها العذبة. وحصلت على جائزة «أفضل عازفة» فى أكثر من مهرجان، قد حطت رحالها أخيرا فى بيتها الأصلى وأصبحت تجيد العزف على إدارة الأوبرا لتجعلها موطنا للتراث الموسيقى العالمى والعربى على السواء، فحفلات أم كلثوم التى كان جمهور العالم العربى يلتف حولها فى الخميس الأول من كل شهر، كانت واحدة من أهم مظاهر الوحدة العربية، أو بالأحرى المظهر الوحيد للوحدة التى لم نستطع أن نحقق غيره، وقد انقضت هذه العروة الواهية من الاتفاق على شىء موحد بعد موت أم كلثوم. ولكن لحسن الحظ فإن الأغانى لم تمت، ظلت تتردد فى شبكات الأثير، تنتظر كل الأصوات الجميلة حتى تعيد إليها الحياة من جديد، وإلى توزيعات موسيقية جديدة تعطيها مسحة من المعاصرة، وللحق لم تتوقف الحناجر الذهبية عن الظهور مثل آمال ماهر، وغيرها الكثيرات، ولكنه جهد غير منظم، ويحتاج إلى أكثر من مجرد ترديد الألحان القديمة، وقد تغير هذا بالفعل فى أولى الحفلات التى أقيمت على مسرح الأوبرا. شدَت ريهام عبد الحكيم، فى هذا الحفل بخمس أغنيات كاملة لأم كلثوم، تم اختيارها من مختلف مراحلها الغنائية، ولأن ميعاد الحفل كان يتوافق مع عيد الأم فقد غنت أيضا «ست الحبايب يا حبيبة» لفايزة أحمد، من ألحان محمد عبد الوهاب، ثم عادت الحفل بعد ذلك لخطتها الأصلية، استغرقت كل أغنية نحو نصف الساعة أو أقل قليلا، وهو زمن مناسب استعرضت فيه بعض المناطق الصوتية التى كانت تتجول فيها أم كلثوم دون أن نصاب بالملل، فظاهرة أم كلثوم لن تتكرر، وكذلك زمنها. ولكن الجيد أن المطربة الصاعدة استطاعت أن تنزع شخصيتها من براثن المطربة العتيدة أم كلثوم، وتفرض شخصيتها وأداءها الجديد، فهى لم تكتف ببث الحياة فى الأغنيات القديمة، ولكنها أعادت تجديدها وأضافت إليها من خلال حنجرتها وشخصيتها فى الأداء. لقد أمسكت بالفرصة التى كانت تتوق إليها، والتى تؤكد من خلالها موهبتها. إنها فرصة لدار الأوبرا أيضا تستخدم فيها قوة مصر الناعمة فى مجال الفن، وهى إذا أجادت تسويق هذه الحفلات تستطيع أن تستقطب جزءا من السياحة العربية، خصوصا الذين كانوا يأتون إلى مصر خصيصا من أجل حضور حفلات أم كلثوم، وستمتلئ الصفوف بالعديد من الإخوة العرب الذين يهوون الطرب المصرى وهم كثيرون. ونحن لدينا ثروة من الأصوات الجميلة القادرة على إقامة هذه الحفلات، وربما نعيد اكتشافها من جديد، هناك المطربة ذات الصوت الساحر آمال ماهر التى لا يزال اللبنانيون يذكرون حفلاتها فى بيت علم الدين، وثمة أصوات لا تقل سِحرا عنها مثل مى فاروق ورحاب عمر وإيمان عبد الغنى، ثروة من الأصوات المتعلمة، التى تتميز بالجدية وعدم الابتذال، وتستطيع أن تستقطب بعضا من المطربات العرب الذين وقعن فى هوى غناء أم كلثوم، وحتى تكتمل دائرة السحر أرجو من سيدة الأوبرا أن تجعل من هذه الحفلات فى الخميس الأول من كل شهر، الموعد الذى لم يكن يتغير لأم كلثوم، وأن تعمل على إذاعة هذه الحفلات على الهواء من خلال عقد اتفاق مع وزارة الإعلام، وربنا يسهل حتى يتفهم الوزير الجديد مدى أهمية الفن فى تكوين صورة مصر وسط عالمها العربى، وأن هذه الحفلات هى لمتعة الغناء الخاصة دون أى ابتذال، ومن إنجازات سيدة الأوبرا أيضا أنها أطلقت أول قناة رسمية للأوبرا على شبكة الإنترنت، تصل إلى المستمع البعيد الذى لا تمكنه الظروف من القدوم إلى الأوبرا من مشاهدة بعض من أنشطتها. وأرجو أن تجد حفلات أم كلثوم الجديدة مكانا كاملا لها على صفحات هذه الشبكة. إن هذه الحفلات التى تصل بين الأجيال ستتيح متنفَّسًا جديدا لجيل من شباب الفنانين ما زال يبحث عن شخصيته، وستوقظ فيهم طاقات من التحدى ليعبّروا عن واقعهم الجديد وفنونهم المعاصرة.