رغم إقرار كثير من المراقبين والمحللين السياسيين داخل مصر وخارجها بحقيقة وأهمية تأثير الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التى تناولتها فى المقالتين السابقتين، فإن قطاعا منهم يتشكك فى قدرتها على أن تصل بالمجتمع إلى مرحلة الانفجار. فهم يراهنون على أن الأجواء الآن غير التى سبقت ثورة يناير، وأن المناخ العام يساعد على إخماد أى حريق قبل وصوله إلى مرحلة الانفجار، وأنا أتصور أن نفس تلك الرهانات هو ما يبنى عليه النظام مواقفه الحالية واستخفافه لأى تحذيرات يطلقها من يخشى على مستقبل البلد، بل ويتمادى فى فرض ما يراه من إجراءات دون النظر إلى أى عواقب لها. الخوف كل الخوف أن تكون تلك الرهانات خاطئة وندفع ثمنها جميعا. الرهان الأول هو إدراك الجميع لخطورة الإرهاب الذى تواجهه مصر، وضرورة الاصطفاف وراء القيادة فى حربها الضروس على الإرهاب، وهو رهان فى محله، لأنه يمس ما يعيه المواطن المصرى من أهمية الحفاظ على مؤسسات الدولة، لكن هذه الدرجة من الوعى تتضاءل تدريجيا مع الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، فنجدها أعلى بين النخبة المثقفة والمقتدرة ماديا وأقل بين المواطنين الأقل حظا والمضغوطين بمصاعب الحياة اليومية. الرهان الثانى هو شعبية الرئيس التى هى أعلى بالمقارنة بشعبية مبارك ومرسى، وكذلك المشروعات القومية الكبرى كمشروع قناة السويس التى تسهم فى زيادة شعبيته، وهذا أيضا رهان فى محله على المدى القصير، لكن شعبية الرئيس مرهونة بأوضاع المواطنين المعيشية فى المقام الأول، وهو نفسه يدرك أنه ليست هناك شعبية دائمة، أما المشروعات القومية الكبرى فقد يكون لها رد فعل عكسى على المدى الطويل إذا لم تنعكس قريبا على حال المواطن وظروفه المعيشية، فالتضخيم الإعلامى غير المحسوب قد يؤدى إلى عواقب وخيمة إن لم تقطف الجماهير ثمار هذه المشروعات فى الأمد المنظور. الخوف من عودة الإخوان والإسلاميين هو أحد أهم الرهانات التى يراهن عليها النظام فى دعايته ضد كل من يتجرأ على معارضته، وهو قلق حقيقى عند قطاع من الشعب المصرى يجعلهم يتغاضون عن أى أخطاء قد تعود بهم إلى هذا الكابوس مرة أخرى، لكننى أزعم أن هذا القطاع يمثل فئة ليست بالكبيرة خصوصا خارج المدن الكبرى، وهو ما يفسر أيضا قلق النظام من أن تتجاوز نسبة الإسلاميين فى مجلس النواب القادم ما يخصصونه لهم، فالإسلاميون الذين يرتدون ثوب السلفية ينتشرون بين القواعد الشعبية بعيدا عن أعين النخبة، وفى ظل حماية -وربما تواطؤ- بعض أجهزة الدولة الأمنية، لذا فهذا الرهان هو أكثر رهانات النظام هشاشة أمام سيناريو الانفجار. أخيرا، يراهن النظام على غياب -أو بالأحرى تغييب- البديل الوطنى المدنى، وهو يصب فى نفس نتيجة الرهان على التخوف من عودة الإسلاميين وينحصر بين نفس الفئة التى تخشاهم، لكنه أيضا يتجاهل أن عند لحظة الانفجار وعشوائيته، لن يبحث المواطن الذى فاض به الكيل عن قيادة أو عن بديل بقدر ما سوف يبحث عن الانتقام ممن ظلمه. تقديرى إن تلك الرهانات قد أسهمت فى تأجيل قدر كبير من السخط الشعبى الذى كان من الممكن أن يحدث خلال العام الأول لرئاسة السيسى، لكنها فى نفس الوقت غير قادرة على الصمود أمام التحديات المتزايدة الناتجة عن سوء إدارة المرحلة ككل، فاستشراء الفساد الذى يلمسه المواطن فى كثير من مؤسسات الدولة وانعدام الشفافية فى مواجهته، إن كانت تتم مواجهته أصلا، واليأس من جدوى الوعود البراقة والمشروعات الكبرى هى عوامل تؤدى إلى إضعاف تلك الرهانات مع مرور الوقت وتغير الأوضاع. كما أن الحقيقة الثابتة التى يتغافل عنها القائمون على النظام الحالى هى أن الشعب المصرى تغير بالفعل بعد ثورة يناير، فقد أصبح أكثر وعيا بحقوقه وأكثر ثقة فى قدرته على تغيير واقعه المؤلم وأكثر رفضا للتطويع كما فى السابق، وما مظاهرات العاملين بالضرائب ضد قانون الخدمة المدنية -سواء اتفقت معهم أو اختلفت- إلا دليل على هذا التغير السلوكى حتى بين من هم ليسوا بمؤيدين لثورة يناير. هذا التغير النفسى كان ينبغى استثماره وتطويره فى إطار ممارسة سياسية ديمقراطية وصحيحة، لكن فى غياب ذلك، سيسهل توظيفه كوقود للانفجار.المشكلة الأكبر والتى تجعل من تلك الرهانات كوارث محققة حال فشلها هو انتشار ثقافة العنف فى المجتمع على نحو غير مسبوق، وما صاحب ذلك من انتشار للأسلحة أيضا بشكل غير مسبوق بعد تزايد التهريب على امتداد كل حدودنا تقريبا خلال أربع سنوات، وهو ما سيجعل من هذا الانفجار كارثة محققة. ما أخشاه أن يتشابه هذا الانفجار فى بداياته مع انتفاضة رغيف العيش فى يناير 77 والتى اندلعت إثر قرارات اقتصادية وكادت تطيح بحكم الرئيس السادات -المنتصر فى حرب أكتوبر- فالشعب المصرى شعاره الأهم دوما «لا صوت يعلو فوق لقمة العيش». هذه المرة ربما يكون المشهد أشد ضراوة وأكثر عنفا لتغير الظروف المعيشية للشعب وتركيبته النفسية، بجانب انتشار مظاهر العنف وتوافر الأسلحة وتربص جماعات العنف والإسلام السياسى، كل ذلك قد يؤدى إلى كارثة بكل المقاييس إن لم نلتفت إليها جميعا ونجهضها قبل أن نخسر كل رهانات المستقبل.