بعد أن كادت ظاهرة اطفال الشوارع تتحول إلى حريق في قلب الوطن ها هى رموز كبيرة في الثقافة المصرية تفتح هذا الملف الموروث ضمن تركة مريرة لنظام استبدادي ثار عليه المصريون واطاحوا به. وفيما انعكست الظاهرة وتداعياتها في الصحف ووسائل الإعلام المصرية، لاحظ الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة أنه "في الفترة الأخيرة ومع حالة الانفلات الأمني في الشارع المصري طفت على السطح قضية أطفال الشوارع الذين يجمعون الحجارة كل ليلة في مواجهات مع جال الشرطة بلا أسباب، فلا هم ساسة ولاهم ثوار"، معتبرا "أنهم فقط ضحايا مجتمع لايرحم". وفي سياق تشخيصه لظاهرة أطفال الشوارع، أوضح جويدة أن "أعمارهم تتراوح بين 7 سنوات و15 سنة "، مضيفا :"أبحثوا عن ثلاثة ملايين طفل ينامون في الشوارع ولا أحد يعرف عنهم شيئا، إنها قضية اجتماعية إنسانية قبل أن تكون قضية أمنية". وأطفال الشوارع كما تشير دراسات للظاهرة من منظور ثقافي هي كتل تعاني من الاغتراب جراء الحرمان من أبسط معطيات الحياة الطبيعية والسوية ومن ثم تعمد للممارسات التدميرية بجنوح انتقامي وكأنه الثأر بلا وعي من صانعي الاغتراب والحرمان ولتكون عنصرا فاعلا في مظاهر العنف الزاحف على أوجه الحياة اليومية. وتعليقا على ماذكره فاروق جويدة، قال المستشار زكريا عبد العزيز رئيس نادي القضاه السابق "إن هؤلاء الأطفال يمثلون واحدة من أخطر وأقدم الأزمات الانسانية والاجتماعية في الشارع المصري". فأطفال الشوارع باتوا طرفا حاضرا دوما في مشاهد العنف في الشوارع وهي مشاهد لايمكن أن تنسب لأي سياق ثوري نبيل، فيما يرى معلقون أنها بمثابة حرب تدور رحاها لتفكيك المجتمع المنهك بالفعل جراء أحداث العنف وأثار بعض المحللين تساؤلات حول امكانية استغلال القوى المعادية لمصر لهذه الظاهرة المحزنة بغرض تكريس حالة الفوضى في شوارع المحروسة. ولاحظ الكاتب والشاعر فاروق جويدة "أن هناك حلقة مفقودة في هذا العدد الرهيب من الأطفال الذين يخرجون كل ليلة إلى الشوارع"، فيما تساءل: "هل هناك جهات تنفق عليهم، هل هناك أشخاص يحرضونهم. وكيف اختاروا مكانا محددا أمام الفنادق الكبرى"؟!. وقال فاروق جويدة:"اننا نتحدث عن ظاهرة أطفال الشوارع منذ سنوات ولم يسمع أحدا"، منوها بأنه في الدول المتقدمة تقام مؤسسات كاملة لايواء هؤلاء الأطفال وتعليمهم "حتى لايتحولوا إلى ألغام إجرامية في المجتمع". ومشكلة أطفال الشوارع تعبر عن خلل بنيوي عميق في المجتمع هي من التجسدات الصادمة لمرحلة بأكملها تراكم فيها الفقر والمرض والجهل مع تدهور مريع على مستويات الرؤى والأداء والسياسات لمن تصدروا المشهد المصري حينئذ بجهالات وضلالات ماسمي "بالفكر الجديد" أو أمسكوا بالعديد من المفاصل الحساسة للدولة أو باتوا في مواقع التأثير الفعلي على القرار. أين ذلك من نموذج يتجلي في كتاب جديد صدر بالانجليزية بعنوان :"حروب الرصاص: سياسات العلم ومصير أطفال أمريكا" وهو كتاب يكرسه المؤلفان جيرالد ماركوفيتز ودافيد روزنر لمشكلة تزايد معدلات الرصاص في دماء الأطفال الأمريكيين بالعائلات الفقيرة، فيما أكدا أن المشكلة بمخاطرها الصحية تدخل في صميم قضايا العدالة الاجتماعية وتستدعي خطة لمواجهتها تبلغ تكاليفها 33 مليار دولار وتشارك فيها منظمات المجتمع المدني إلى جانب الحكومة!. وهل يمكن مع استمرار مشكلة أطفال الشوارع أن نتحدث بثقة عن المستقبل أو تصدر كتب حول رهانات المستقبل على غرار مايحدث في الغرب حيث تتوالى الكتب الدالة في هذا الاتجاه مثل الكتاب الجديد الذي صدر بعنوان :"من يمتلك المستقبل؟" وفيه يناقش المؤلف جونار لانير دور الشركات الرقمية العملاقة في مستقبل الغرب؟!. ومن هنا حق للباحث والخبير البارز بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية نبيل عبد الفتاح أن يقول في سياق أوسع نطاقا يتعلق بالضعف التكويني لنخبة الحكم خلال السنوات الطويلة للنظام السابق :"كان بعض الثقاه من الباحثين والكتاب ذوي المعرفة والتكوين الرفيع والخبرات والاتصال بمايجري في عالمنا والمنطقة ومصر يشيرون إلى مواضع الاختلالات البنيوية العميقة ويقدمون الرؤى والتصورات. ومع ذلك فكما يقول نبيل عبد الفتاح:"كان خطاب الضحالة التي تصل في بعض الأحيان الى البلاهة سادرا في غيه لايرى ولايقرأ ولايسمع مايدور حوله"، فيما أشار أيضا إلى "الفشل الحاد في ادارة تحديات المراحل الانتقالية". ويتساءل فاروق جويدة عن دور المجتمع المدني حيال هؤلاء الأطفال مضيفا: "أين الجمعيات الخيرية واين مراكز البحوث التي ينبغي أن ترسل خبراءها وسط هؤلاء الأطفال"، فيما تقول نيللي علي الباحثة في علوم الانثربولوجي بجامعة لندن والمتخصصة في دراسة اطفال الشوارع وذات الاهتمامات الثقافية العميقة بهذه القضية أن حياة هؤلاء الأطفال حتى في الملاجيء لاتفتقر فقط للتمويل بعد الثورة ولكن إلى الاهتمام والوعي المجتمعيين . ومن المفارقات ان بعض رموز النظام الاستبدادي المخلوع وسدنته كانوا يسعون لتأسيس نوع من الشرعية الزائفة عبر التناول الاستعراضي لقضايا الطفولة فيما كانت الشوارع تستقبل المزيد من الأطفال الذين يعانون من الجوع والمرض والأمية دون أن ينقذهم أو يخفف من حدة معاناتهم هذا النوع من الشكلانية الخيرية أو كرنفالات سيدات الصالونات الباحثات عن الشهرة وإرضاء الذات الاستعراضية !. فالنخبة الفاشلة التي جرى التمكين لها قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير في ظل أجواء الفساد والمحسوبية والوساطات كانت عاجزة في الواقع عن التجديد في الرؤى والأفكار وأساليب العمل والحركة وهي في ضعفها التكويني وافتقارها للمواهب والخيال المبدع لم يكن بمقدورها أبدا أن تواجه إشكالية بهذه الخطورة وماكان لها سوى أن تكتفي بلغو خطابها الاستعراضي البائس دون أن تهزها صدمات خطاب الواقع الموضوعي!. غير أن الاشكالية اكتسبت المزيد من الخطورة بعد ثورة 25 يناير ومع حالات الخروج الصارخ على القانون للحد الذي دفع العديد من الكتاب واصحاب الطروحات الصحفية للقول بأن هذه الحالات تشكل تهديدا لوجود الدولة أو على الأقل لهيبتها. وكما أوضح الكاتب والباحث المرموق السيد ياسين فقد ذهب بعض الباحثين الذين تحدثوا عن ثورة 25 يناير إلى أن المرحلة الانتقالية تحولت لأسباب شتى ألى فوضى عارمة، فيما واجهت الثورة منذ قيامها عدة تحديات من بينها التحدى المتعلق بمخاطر التفكك الاجتماعي بما يصاحبه من غياب الأمن الانساني. وأشار السيد ياسين إلى أن التفكك الاجتماعي ينتج من الانفلات من المعايير والقيم بل والانقلاب الصريح عليها وممارسة سلوك غوغائي ورفع شعارات ثورية على غير أساس، فيما يقول ونار لانير في كتابه: "من يمتلك المستقبل؟" إن الحلم المثالي للثورة في السياق الراهن ينطوي على وعد بالشفافية المجتمعية. وأعاد المستشار زكريا عبد العزيز للأذهان أن أزمة أطفال الشوارع ظهرت بوضوح في أيام الثورة الأولى "حيث توافد الآلاف منهم إلى ميدان التحرير ووجدوا بعض المساعدات والطعام". وأضاف عبد العزيز: "وذات يوم قررت مجموعة من الثوار جمع هؤلاء الأطفال في مكان واحد وشارك بعض المواطنين في تمويل الفكرة حيث تم شراء ملابس جديدة لهم وتوفير مكان مناسب لاقامتهم وتغيير أسلوب حياتهم بالكامل طعاما ومظهرا ومعيشة، وبعد يومين من هذه التجربة لم نجد منهم طفلا واحدا فقد اختفوا تماما وعادوا إلى الشوارع"!. وبينما أوضح أن بعض الثوار حاولوا جمعهم مرة أخرى لكنهم فشلوا ولم تنجح التجربة، يرى المستشار زكريا عبد العزيز أن المطلوب "حل شامل لهؤلاء الأطفال لأن أعدادهم كبيرة ويحتاجون إلى دراسة كاملة تتناول الجوانب الثقافية والتربوية والسلوكية بجانب انشاء مدارس حرفية يتعلمون فيها حرفة تفيدهم وتفيد المجتمع . ومضى المستشار زكريا عبد العزيز في طرح رؤيته للحل قائلا: "والمطلوب أيضا إنشاء مؤسسة كبرى تشارك فيها الحكومة ورجال الأعمال وأهل الخير بحيث تجمع هذه الأعداد الضخمة من الأطفال ولامانع أن يكون ذلك في احد المشروعات الكبرى مثل توشكا أو العوينات وهناك يمكن توفير حياة ومناخ مختلف تحت اشراف مؤسسات ثقافية واجتماعية لإنقاذ هؤلاء الأطفال". وفيما يؤيد الكاتب والشاعر فاروق جويدة هذه الرؤية التي طرحها المستشار زكريا عبد العزيز لحل مشكلة أطفال الشوارع فإن المشكلة تلقي بظلال قاتمة على المستقبل لأن هؤلاء الأطفال هم جزء من مستقبل الوطن وهم رجال الغد. وإذا كانت الانتهاكات الفظة لحقوق الانسان والتي طالت ضمن ما طالت حقوق الأطفال أحد محفزات الحراك الثوري لاسقاط النظام الاستبدادي، فإن مصر الثورة مدعوة بإلحاح لحل جذري وانساني لاشكالية أطفال الشوارع لأنها جزء من معركة مستقبل مصر. واشكالية كهذه بحاجة لخطة طريق تصدر عن تفكير عقلاني وروح نقدية ومشاعر أنسانية بعيدا عن الرغبة في الادانة، فكما تقول الباحثة الجادة نيللي علي: "مازالت بوصلة اللوم مختلة"، مشيرة إلى أن البعض يوجه أصبع الاتهام إلى اطفال الشوارع لأنهم في الشوارع وليسوا في البيت متجاهلين كل الأسباب التي دفعتهم للشوارع!. إنها الظاهرة الأليمة برياح حرائق وعنف شوارع ونداءات مخنوقة وشهقات جوع وبرد وخوف!..فمتى يؤكد وجه الهلال مولده في مصر الثورة وتنتهي ظاهرة أطفال الشوارع ويقضي كل الأطفال ليال هانئة في حضن الوطن الدافيء؟!..انها قضية ثورية وثقافية بالدرجة الأولى.