فإما الخلاف الكبير (نسبيًّا) الذى أشرت فى سطور أمس إلى حدوثه بين الصديقَين المبدعَين العظيمَين جوته وبيتهوفن، فهو يعود إلى اشتراكهما فى التأييد والحماس الشديد للثورة الفرنسية، ثم حب وتقدير كليهما لأبرز رجالها نابليون بونابرت. بيد أن هذا الحب لم يستمر طويلًا، إذ سرعان ما أُصيب الأديب والشاعر الكبير ورفيقه الموسيقىّ العبقرىّ بصدمة وخيبة أمل قاسية فى الجنرال الذى طالما داعبت فتوحاته الأوروبية تحت راية الثورة وشعاراتها الراقية أحلامهما بأن تسطع شمس الحرية والمساواة ويعبر ضوؤها حدود فرنسا فيبدد ظلام التأخُّر والاستبداد والرجعية المخيم وقتها على أغلب بقاع القارة العجوز. لقد بدأ حماس جوته وبيتهوفن لنابليون يخفت ويتراجع رويدًا رويدًا، خصوصًا بعدما عيّن الجنرال المحبوب نفسه إمبراطورًا.. هنا فقد الاثنان كل التقدير والحب الذى منحاه للرجل، لكنهما اختلفا فى التعبير عن الموقف الجديد من بطلهما السابق، فبينما كان الأخير أكثر حدّة وصخبًا فى التعبير عن غضبه لدرجة أنه مزَّق الورقة الافتتاحية لسيمفونية «إيرويكا» التى ألّفها وفى نيّته أن يهديها إلى نابليون وقام بتغيير اسمها إلى «السيمفونية الثالثة»، فإن جوته بدا أكثر ليونة ومهادنة فى التعبير السلوكى عن غضبه، وقد ذهب فى ذلك بعيدًا جدًّا، إذ حينما احتلت جيوش الجنرال الفرنسى بروسيا لم يجد الشاعر والأديب الألمانى العظيم غضاضة من اللقاء بنابليون مرَّتَين، وفى الأولى عبر الجنرال عن إعجابه الشديد بجوته وقال عنه مقولته الشهيرة: «إنه إنسان بحق». الآن أنقل إليك تفاصيل الحكاية الطريفة التى وعدتك بها، والتى تكشف الاختلاف السلوكى القوى بين جوته وبيتهوفن فى التعبير عن اعتقادهما الواحد، وسوف أنقلها إلى حضرتك كما كتبها بيتهوفن بنفسه فى مقطع من مذكراته قال فيه: «.. ما أروع أن يشعر الإنسان ببعض العظمة والاعتداد بالنفس، بالأمس وبينما كنا (هو وجوته) فى الطريق إلى البيت، قابلنا أفراد العائلة الإمبراطورية فى الطريق.. رأيناهم قادمين نحونا، وعندما اقتربوا منا سحب جوته يده من يدى لكى يتنحى عن الطريق.. حاولت بكل وسعى ثنيه وإقناعه بمواصلة السير، لكن من دون جدوى، وبينما أنا أمشى قبالة الجمع، كنت أضغط قبعتى على رأسى بنزق وأُحكِم إغلاق أزرار سترتى وأثنى يدى خلف ظهرى.. ولاحظت أن الأمراء وكبار الحاشية والأعيان أفسحوا لى جزءًا من الطريق.. الأرشيدوق رودولف رفع قبعته فى اتجاهى محييا، ورفعت الإمبراطورة (زوجة نابليون) يدها لى بالسلام.. إذن فهؤلاء الناس العظام يعرفوننى، هكذا حدثت نفسى.. لكنها كانت لحظة من أغرب اللحظات وأكثرها طرافة، فقد رأيت الموكب يمر من أمام جوته بهدوء ولا مبالاة، وكان صديقى ما زال واقفًا هناك على جانب الطريق متكومًا على نفسه ونازعًا قبعته وخافضًا رأسه إلى الأرض بأقصى ما يستطيع»!! انتهت الحكاية..