الحديث عن انزلاق مصر نحو الخراب والانهيار الاقتصادى لم يتوقف. وهو حديث اليوم مثلما كان حديث الأمس، وبالتأكيد سيكون أيضا حديث الغد. ولا يبدو فى الأفق أو القريب العاجل أى بوادر اتفاق مع صندوق النقد مهما كانت التصريحات والتأكيدات والتطمينات، وما يقال على لسان المسؤولين المصريين أو الناطقين باسمهم. وطبعا أصحاب السلطة والقرار لا يفكرون فى الوقت الحالى الالتزام بأى برنامج أو اتفاق يثير غضب الشعب قبل الانتخابات البرلمانية. وحسب ما نقل عن مسعود أحمد، مدير الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بالصندوق فى صحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية بالأمس فإن أحمد رفض التعليق على المفاوضات مع مصر، واكتفى بالقول: «وجهة نظر الصندوق أن البرنامج يجب أن يكون له التأثير المرغوب لبناء الثقة.. وفى حاجة أن تكون به تدابير قوية تتعامل مع مشكلات مصر الاقتصادية بشكل أشمل». ولم تعد الإشارة والتذكرة بضرورة وحتمية الإصلاح السياسى مجرد «كلام يتردد» من جانب قيادات فى الكونجرس، بل «نغمة متكررة» من الإدارة والمتحدثين باسمها تطالب بالتوافق الوطنى والمشاركة السياسية وحماية الحريات. وهذه المطالب تكرر ذكرها و«تسليط الأضواء» عليها فى افتتاحية ل«الواشنطن بوست» منذ أيام قليلة، وتكرر الأمر فى افتتاحية ل«نيويورك تايمز». ويوم الجمعة الماضى فيكتوريا نولاند، المتحدثة باسم الخارجية وهى تتناول من جديد زيارة جون كيرى وزير الخارجية الأمريكى ولقاءه الرئيس محمد مرسى، ذكرت بأن هناك حاجة ماسة إلى إصلاحات اقتصادية وسياسية على السواء، ثم قالت: «لكن أوضحنا أيضا بأن دون تلك الإصلاحات سيكون من الصعب أن نستمر فى الدعم». وفى الإيجاز اليومى نفسه قالت: «نحن نراقب الوضع الأمنى فى مصر اليوم»، وقالت أيضا: «كما تعلمون ماذا هو موقفنا.. نحن نحث كل المصريين أن يمارسوا حقهم فى حرية التعبير سلميا، كما أننا نحث على ضبط النفس من جانب الحكومة وقوات الأمن، بينما تحدث هذه المظاهرات»، وما دمنا نتحدث عن المشهد الأمريكى هذه الأيام يجب أن أذكر بأن الداخل المصرى بكل تفاصيله (حتى المملة منها) صارت معروفة للمتابعين والمهتمين بمصر وحالها وأحوال أهلها فى واشنطن، وبالتالى لا يمكن تكرار الوصف إياه «هم مش فاهمين» أو «مش فاهمين كل حاجة». وكما تعلمنا من حكمة الأقدمين «هم فاهمين بس ساكتين»، أو «ساكتين لأنهم فاهمين ومش عايزين يزيدوا الطين بلة». وبالتأكيد لا داعى ل«الأسطوانة المشروخة إياها»، اتهام وسائل الإعلام بأنها الأداة والجريمة فى تهويل ما يحدث ولىّ الحقائق. ودائما القول إياه «نحن نعرف من يقف وراءها». ولعل من أبرز ما قالته د.باكينام الشرقاوى، مساعدة الرئيس للشؤون السياسية، فى لقاء مع ممثلى الصحافة المصرية فى واشنطن، إن المسؤولين الأمريكيين فى لقاءاتهم مع الوفد الرئاسى المصرى أبدوا تفهما لمصاعب عملية المخاض الديمقراطى فى مصر. والوفد الرئاسى كان برئاسة د.باكينام، ويضم المهندس خالد القزاز سكرتير الرئيس للشؤون الخارجية، ونرمين عبد البارى منسقة حقوق الإنسان، ووائل هدارة مستشار الإعلام والاتصالات بالرئاسة. واللقاءات شملت الخارجية وأعضاء الكونجرس ومركز «وودرو ولسن» للأكاديميين، ومعهد «بروكنجز». وكان هناك لقاء من المقرر عقده بمجلس الأمن القومى إلا أنه لم يعقد لسوء الأحوال الجوية يوم الأربعاء الماضى. لقاء الخارجية كان صباح الخميس الماضى، وشمل كلا من وندى شيرمن وكيلة وزير الخارجية للشؤون السياسية، وروبرت هورماتس وكيل وزير الخارجية للنمو الاقتصادى والطاقة والبيئة. ولم يكن بالأمر الغريب أن أغلب القضايا والأسئلة المطروحة فى واشنطن على د.باكينام كانت تدور فى الشأن الداخلى المصرى، وملف الحريات وحقوق المرأة والمجتمع المدنى، بجانب قضايا المنطقة. وقد لوحظ من البعض بأنه لم يطرح سؤال إلا وتم الرد عليه، لكن هذا الرد هل كان جوابا على ما طرح أم... كما أن الملاحظ أن فى أغلب الردود هناك «إعادة تعريف» لبعض التعريفات مثل «التجربة الديمقراطية» وقضية «الحريات» و«النخبة» و«العلاقات الاستراتيجية»، مع ذكر العبارة «لنا مفهوم آخر». ولذلك كان من الطبيعى أن نسمع فى واشنطن تبريرا وتفسيرا للبطء أو التباطؤ أو عدم الرغبة فى تطبيق الديمقراطية بأنه مصاعب مخاض العملية الديمقراطية فى مصر. وإذا كان نائب الرئيس الأمريكى جو بايدن قال فى مؤتمر «إيباك» السنوى لأقوى لوبى مؤيد لإسرائيل بأن واشنطن «لا تنظر لما يحدث فى مصر عبر نظارة وردية»، فإن السناتور الديمقراطى روبرت منانديز، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، أشار إلى أن المساعدة الأمنية الأمريكية لمصر «لا يمكن أن تكون شيكا على بياض»، وحرص السناتور على تأكيد حرصه على استمرار العلاقات العسكرية والاستخباراتية بين الولاياتالمتحدة ومصر. وضرورة استمرار مصر بالتزامها باتفاقية السلام مع إسرائيل. ويذكر أن «إيباك» كانت وما زالت حريصة على استمرار المساعدات العسكرية والاقتصادية لمصر، وتعمل من أجلها. كما أنها أخيرا وخلال الأزمة المثارة حول القاذفة «إف 16» ومنع إرسالها لمصر «التى يحكمها الإخوان» (حسب وصف رجال الكونجرس)، أيدت «إيباك» إرسال الصفقة، وأعلنت موقفها على الملأ. ويظل الأمن فى سيناء هو الهم الشاغل للكثيرين من المهتمين بأمن المنطقة. وأمن سيناء تحديدا تم عرضه ومناقشته فى مؤتمر «إيباك» السنوى الأخير مع بيان خطورة تفجر الموقف على إسرائيل. إيهود يعارى، الإعلامى والمعلق السياسى الإسرائيلى، قال: إذا كانت إسرائيل تواجه من قبل تهديد الجيوش العربية فإنها الآن ولبضعة سنوات قادمة سوف تواجه تهديدا من القوات غير المنتظمة والميليشيات التى تزداد عددا وتحركا وانتقالا فى أرجاء المنطقة. ولم يستبعد يعارى أن تتعاون إسرائيل مع دول عربية لمواجهة هذا التهديد الجديد. ومع عودة كيرى من زيارته لمصر ووعده بتوفير 250 مليون دولار لحاجة مصر الملحة تعالت الأصوات «ثم ماذا؟» و«إلى متى؟». وكشفت صحيفة «ذى هيل» المعنية بالكونجرس أن قيادات بالكونجرس خصوصا فى لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب منعوا كيرى من تقديم مساعدات أكثر لمصر. وقالت الصحيفة إن جون كيرى وزير الخارجية الأمريكى كان يأمل أن يمنح لمصر أكثر مما أعلنه من 250 مليون دولار فى نهاية زيارته للقاهرة، إلا أن الكونجرس «سد الطريق أمامه»، حسب ما قاله إد رويس (جمهورى من كاليفورنيا) رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب للصحيفة الأمريكية، لكنه أحجم عن ذكر الرقم الأكبر الذى كان يتمناه كيرى. ويذكر أن الخارجية منذ الخريف الماضى تضغط على الكونجرس من أجل إعطاء الضوء الأخضر ل450 مليونا من الدولارات لمساعدة مباشرة لمصر. وقال رويس فى تبريره لموقفه «إن نهجنا فى التعامل مع هذا الأمر ليس نهج الإدارة المتسارع لإمداد كل المعونة التى يريدون منحها بل نهج محسوب من ربط شرائح مالية بنتائج تتحقق فى مصر فى ما يخص معاهدة السلام مع إسرائيل والشراكة فى التعامل مع تهريب الأسلحة عبر سيناء والإصلاحات الاقتصادية وضمان حقوق المدنية وسيادة القانون فى مصر». مضيفا «وهذا هو الضغط الذى نمارسه». أما النائبة إليانا روس ليتنن، رئيسة اللجنة الفرعية للشرق الأوسط وشمال إفريقيا بمجلس النواب، فقالت بسخرية «أنا سعيدة لأن ينهى الوزير رحلته، لأن فى كل دولة يزورها يعد فيها ما يعد بالمزيد من المساعدة المالية لما يسميهم بحلفاء»، وأضافت: «إذا لم يتم الانتهاء من هذه الجولة قريبا فإننا سنزداد إفلاسا»، نعم واشنطن قد تتفهم المصاعب والأهوال التى تواجهها مصر هذه الأيام، إلا أن تتفهم شىء، وأن تقبل بها شىء آخر، خصوصا أن الحديث عن الاقتراب من الحافة وتكراره أصبح مخيفا لمن يعنيه الأمر. وكما قيل من قبل تتكرر فى الأيام الماضية على مسامعى العبارة والتحذير «إلا الانهيار والفوضى». ولكن ترى من يسمع ويعى ويتحرك.. قبل فوات الأوان؟!