في خطابه للأمة مساء الأحد 27 يناير 2013 قدم الرئيس محمد مرسي رؤيته لحل الأزمة المشتعلة في عدد من المحافظات المصرية وعلى رأسها محافظات قناة السويس. ميز مرسي في خطابه بين المتظاهرين سلميا الذين يرفعون مطالب سياسية يمكن النقاش حولها وقدم لهؤلاء جزرة تمثلت في دعوته القوى السياسية إلي حوار غير مشروط، أما المجموعة الأخرى والتي وصفها مرسي «بمثيري الشغب والخارجين عن القانون، فقد لوح لها بعصا الأمن متوعدا بالتعامل معهم بكل حسم وقوة». فهل أصاب الرئيس في تشخيصه للمشكلة؟ وهل ينجح العلاج الذي قرره؟ ربما كان من المفيد النظر إلي تجربة مدن القناة خلال الاسبوع الذي بدأ في 25 يناير 2013، إذ شهدت بداية الأسبوع اشتباكات دموية أودت بحياة حوالي خمسين شخصا، ولكنها سرعان ما انحسرت في الأيام التالية ليقف نزيف الدم في تلك المدن فيما تبقى من أيام الأسبوع. قام مراسل بي بي سي خالد عز العرب بزيارة لمدن القناة الثلاثة «بورسعيد والاسماعيليةوالسويس» في النصف الثاني من الأسبوع بصحبة فريق عمل بي بي سي، وتحدث مع عدد كبير من شهود العيان ومن الأهالي وبعض الصحفيين والناشطين السياسيين. *ثلاث مدن ورواية واحدة ويقول مراسلنا إنه منذ أن بدأ جولته في مدن القناة وهو يسمع نفس الرواية في كل مرة، ومفادها أن هناك مجموعة من الناس تتظاهر سلميا وأن هناك بلطجية يستغلون الموقف وأن الشرطة ترد بشكل عشوائي فتصيب هذا وذاك وتزيد الموقف سوءا. لكن التفاصيل تختلف بين مكان وآخر. في بورسعيد يؤكد الأهالي أنه بعد قرار المحكمة في قضية استاد بورسعيد التي وصفت ب«بمذبحة بورسعيد» والتي راح ضحيتها 72 من مشجعي النادي الأهلي «التراس أهلاوي» إحالة أوراق 21 متهما إلي المفتي، تجمعت أعداد كبيرة من الأهالي أمام السجن للاحتجاج لكنهم لم يحاولوا اقتحامه كما تقول رواية وزارة الداخلية. ويذكر أهالي بورسعيد أن عددا صغيرا من البلطجية استهدف رجال الشرطة، إلا أن رد فعل قوات الأمن كان جنونيا فأدى إلي مقتل أكثر من أربعين شخصا. وعلى مدى اليومين التاليين استمرت المواجهات الليلية المسلحة بين البلطجية والشرطة حول قسم حي العرب، ولكن رد الشرطة جاء عشوائيا مرة أخرى فقتلت مواطنين لا ذنب لهم سوى أن حظهم العثر شاء أن يمروا في هذا المكان في ذلك الوقت. في الاسماعيلية أيضا تظاهرات سلمية في الذكرى الثانية للثورة، تلاها، وفقا لروايات الأهالي، اعتداء من بلطجية على قسم ثاني اسماعيلية، رغم محاولات القوى السياسية منع الاقتراب من القسم الذي يقع على مقربة من ميدان الممر حيث يتظاهر «الثوار». وأثناء رد الشرطة على هذا الهجوم سقط قتيل، فتحولت جنازته في اليوم التالي إلي مواجهات واسعة النطاق مع قوات الأمن استغلها البلطجية لاقتحام مبنى المحافظة ونهب محتوياته. وقعت اشتباكات مميتة بين متظاهرين وقوات الأمين في الذكرى الثانية لثورة 25 يناير 2011. في السويس صورة مشابهة تسمعها من الأهالي. تظاهرات سلمية يوم الجمعة في ذكرى الثورة توجهت إلي مبنى المحافظة وهناك وقعت احتكاكات مع قوات الأمن ما لبثت أن هدأت قليلا بعد تدخل الوسطاء، إلا أنها سرعان ما اشتعلت من جديد إثر قيام قوات الأمن المركزي بإلقاء كميات هائلة من قنابل الغاز المسيل للدموع بشكل مفاجئ. تستمر الاشتباكات ويسقط من بين القتلى أحد جنود الأمن المركزي، فينطلق زملاؤه في موجة غضب هيستيرية يطلقون النار ويحطمون السيارات في المنطقة المحيطة بمبنى المحافظة، كما تشير عدة شهادات وبعض لقطات الفيديو. تصل حصيلة القتلى تلك الليلة إلي ثمانية أشخاص وفي اليوم التالي يهاجم "البلطجية" أقسام الشرطة فيستولون على ما فيها من أسلحة ويطلقون سراح من كان بها من محتجزين. «البلطجية» حاضرون دائما في الرواية، لكنك لا تقابلهم على أرض الواقع، تسمع عنهم فقط وكأنهم كائنات أسطورية لا تعيش بيننا، تختلف الصفات التي تلصق بهم بحسب اختلاف الراوي، بين من قال إنهم ميليشيات منظمة تابعة للاخوان المسلمين بغرض الإيقاع بين الشعب والشرطة، وآخر يخبرك بأنهم مجموعة من محترفي الإجرام يستغلون الموقف لنهب وسرقة ما تيسر، وثالث يؤكد أنهم غرباء من خارج المدينة. *حوار مع «البلطجية» ويقول مراسلنا خالد عز العرب إنه اضطر للانتظار إلي اليوم الأخير في رحلته للالتقاء بهؤلاء البلطجية، وأوضح أنه بينما كان يجري حديثا مع رئيس اللجان الشعبية في السويس حول شهادته عما حدث يومي الجمعة والسبت 25 و26 يناير ، كان هناك صبيان يقفان على مقربة يستمعان إلي ما يقوله ثم يحاولان التدخل في الحديث، كان الرجل يحكي الرواية المعتادة عن أن الاشتباكات بدأت بين الشرطة والمتظاهرين ثم استغلها البلطجية لمهاجمة أقسام الشرطة. في البداية اعتقد المراسل أن الصبيين يمارسان الهواية المعتادة للصبية بالمشاكسة للظهور في كادر الكاميرا، لكنه انتبه بعد لحظات إلي ما يقوله أحدهما: «يعني أنا بلطجي يا عمو؟». التفت المراسل فوجد صبيا يبلغ عمره نحو الخامسة عشرة وقد ارتسمت على وجهه إمارات الجد وهو يقول: «أنا رحت عند القسم وضربت، يعني أنا بلطجي؟» وحينما سأله لماذا ذهب إلي القسم، قال الفتى «علشان قتلوا ابن خالتي»، ثم نظر إلي زميلي المصور وطلب منا ألا نصوره – وهو ما لم نكن ننوي فعله على كل حال – لأنه يخشى أن يراه والده. الفتى لا يخشى الدخول في مواجهة مع الشرطة المسلحة، لكنه كأي صبي في مثل سنه يخشى عقاب والده. في بورسعيد خرجت احتجاجات ضد الرئيس مرسي وجماعة الإخوان المسلمين. زميله أكبر منه قليلا وشارك أيضا في الهجوم على قسم الشرطة، لكي يحرر شقيقه الذي كان محتجزا هناك بعد أن لفق له أحد الضباط قضية اتجار بالمخدارت بحسب روايته. الصبيان لا تبدو عليهما علامات الإجرام، بل على العكس يتحدثان بأدب وبنضج ليسا من شيم الكثير من المراهقين. وروايتهما تحطم النظرية السائدة بوجود حدود جامدة وفاصلة بين الثوار والبلطجية، فكلاهما كان مشاركا في تظاهرة الثوار أمام مبنى المحافظة، وعندما رجحت كفة قوات الأمن في تلك الجبهة – مع الهيستيريا التي أصابت الجنود إثر مقتل زميلهم – انتقلا مع غيرهم من المتظاهرين، كما يؤكدان، إلي جبهات جديدة عند الأقسام ليستكملوا المواجهة مع نفس الخصم. اللافت أنه حتى هذين الصبيين اللذين رفضا أن يطلق عليهما وصف «بلطجية» لأنهما شاركا في الهجوم على الأقسام، كانا على استعداد لاستخدام الوصف نفسه ضد غيرهما. «إحنا حدفنا طوب ومولوتوف على القسم، بس في ناس تانية ولعت في عربية المطافي... طب ليه كده؟ ده غلط. ليه تولع في المطافي؟». *الاشتباكات تهدأ تراجعت أعمال العنف كثيرا بداية من يوم الأحد وكادت تنتهي تماما بحلول يوم الاثنين، وقد ترافق ذلك مع حدوث عدة تطورات: أولا: انسحاب الشرطة، وقد حدث ذلك بشكل شبه كلي في بورسعيد حيث انسحبت تماما من الشارع، وفي السويس بدرجة أقل حيث انسحبت من الأقسام ومن تأمين المنشآت العامة مع احتفاظها بقدر من التواجد في الشارع في صورة شرطة المرور، ثم بدرجة أقل في الاسماعيلية التي شهدت خفضا في وجود قوات الأمن في الشارع مع بقائها في الأقسام. والحديث عن الشرطة مع أهالي مدن القناة يكشف قدرا هائلا من السخط وإن تباينت أسبابه. فالسبب الرئيسي في بورسعيد هو غضب الناس من عنف الشرطة في مواجهة الاحتجاجات، إذ يحملونها المسؤولية عن مقتل أكثر من أربعين شخصا على مدى يومين. ويرى سكان بورسعيد أن أجهزة الأمن هي المسؤولة عن وقوع مأساة استاد بورسعيد العام الماضي، ويشككون في إمكانية محاسبتها على ذلك خاصة وأن جل الضباط المتهمين في قضايا قتل المتظاهرين حصلوا على أحكام بالبراءة. وفي الاسماعيليةوالسويس هناك أيضا غضب من استخدام الشرطة للقوة المفرطة في مواجهة التظاهرات، لكن يضاف إليه غضب آخر بسبب ما يقول الأهالي إنه استمرار للفساد بين بعض رجال الشرطة وتقصيرها في القيام بواجبها في حفظ الأمن، ويقدم لك الأهالي عشرات القصص عن جرائم العنف وانتشار السلاح خاصة في المناطق الشعبية في ظل غياب الأمن. ويذكر أهالي بورسعيد أن عددا صغيرا من البلطجية استهدف رجال الشرطة، إلا أن رد فعل قوات الأمن كان جنونيا فأدى إلي مقتل أكثر من أربعين شخصا. ثانيا: انتشار الجيش، وهو المؤسسة الرسمية الوحيدة التي يبدو أنها لا تزال تتمتع بقدر من الاحترام بين أهالي مدن القناة، والذين يصرون على أن هناك علاقة خاصة تربط بينهم وبين القوات المسلحة بسبب تاريخهم المشترك في مواجهة اسرائيل أثناء فترة الحروب التي خاضتها معها مصر. ثالثا: قرارات الرئيس محمد مرسي بفرض حالة الطوارئ وحظر التجول في مدن القناة والتي استقبلها الأهالي بغضب شديد، أضيف إلي ما يشعرون به من سخط على الرئيس وجماعة الاخوان المسلمين، واللذين حظيا بالنصيب الأكبر من اللعنات من قبل من تحدثوا مع مراسلنا من الأهالي في بورسعيد وبدرجة أقل في السويسوالاسماعيلية. واللافت أن هذا الغضب من الرئيس وجماعته لم ينعكس إيجابا على مشاعر الناس تجاه زعماء المعارضة في جبهة الانقاذ، فقد حظى هؤلاء أيضا بنصيب وافر من اللعنات، وإن كان معظم الناس لا تذكرهم إلا أذا سألتهم عنهم. وقد جاء رد الفعل الشعبي قويا على قرارات مرسي، فخرجت التظاهرات الليلية لتتحدى حظر التجول وشاركت فيها أعداد يقول الشهود إنها لم تخرج بهذه الكثافة منذ الإطاحة بالرئيس السابق حسني مبارك في 11 فبراير 2011. وتمت هذه المسيرات في أجواء احتفالية إذ تخللتها مباريات كرة قدم وحلقات رقص وغناء ولم تتعرض لها قوات الجيش مطلقا، باستثناء مطالبة المشاركين بعدم التظاهر أمام نقاط استراتيجية محددة وهو ما انصاع له المتظاهرون. تراجعت إذا أعمال العنف مع حدوث هذه التطورات، ولكن لماذا؟ لا يمكن أن تكون الإجابة هي أنه تم القضاء على البلطجية فعادت الأمور إلي طبيعتها السلمية، فالواقع أن قوات الجيش لم تقم بحملات ضبط واعتقال واسعة كان من شأنها لو حدثت أن تؤيد هذا التفسير. ومع ذلك فإن نزول الجيش ساهم على الأرجح في إيجاد نوع من الردع، وساعده في ذلك كونه يحظى باحترام الأهالي،إذ أنه لو كان يعتمد فقط على قوة السلاح دون وجود غطاء شعبي، لوجدنا على الأقل محاولات للاحتكاك به في ظل حالة الاحتقان والانفلات التي سادت المدن الثلاثة عشية نزوله. العامل الآخر، والذي يذكره بعض الأهالي صراحة في سياق تفسيرهم لتوقف أعمال العنف، هو انسحاب الشرطة وبالتالي اختفاء «العدو» الذي يمكن أن تدور معه الاشتباكات، هذا التفسير إن صح قد يمثل إشكالية لصانع القرار في مصر إن أراد استخلاص عبرة من درس ما حدث في مدن القناة، إذ من الصعب أن يكون الحل عند وقوع اشتباكات مع الشرطة هو سحبها. نزول الجيش ساهم على الأرجح ساهم في تراجع أعمال العنف في مدن القناة الثلاثة. لكن ربما يمكن لصانع القرار البحث في الأسباب التي جعلت من قوات الأمن «عدوا» لقطاع من الأهالي ورفعت عنها الغطاء الشعبي لدى قطاع آخر، خاصة وأن رد فعل الشرطة خلال المواجهات أدى إلي اشتعال الموقف بدلا من تهدئته بحسب شهادات الشهود. العامل الآخر - والذي يعتقد الكثير ممن تحدثت معهم من أهالي مدن القناة أنه مسؤول عن انحسار موجة العنف إلي حد كبير - هو خروج التظاهرات الليلية المنددة بحظر التجول. ولأن هذه التظاهرات لم تكن قاصرة على النشطاء والقوى السياسية وحدهم وإنما شاركت فيها قطاعات عريضة من الجماهير التي مسها الحظر مباشرة، فقد جاءت كبيرة الحجم مما حال دون جرها إلي أعمال عنف لا ترغب فيها غالبية المشاركين. وبحسب تعبير أحد الصحفيين الذين تحدث لمراسلنا في بورسعيد فإن «ضخامة أعداد المشاركين في تلك التظاهرات ومشاركة العائلات فيها كان رادعا لأي شخص يحاول إحداث بلبلة». قدمت التظاهرات الليلية إذا إطارا سلميا للتنفيس عن حالة الغضب والاحتقان، ولكنها في الوقت ذاته لعبت دورا أكبر من مجرد التنفيس، فقد كان مجرد خروج المظاهرات في حد ذاته يعني انتصارها، وذلك على عكس التظاهرات المعتادة التي ترفع شعارات سياسية. فبينما لم يكن أمام هؤلاء الذين تظاهروا يوم الجمعة في ذكرى الثورة سوى الهتاف ضد الرئيس وجماعته على مدى ساعات دون أن يكون لذلك أي مردود على الأرض، كان مجرد خروج المتظاهرين في المسيرات الليلية يعني مباشرة أنهم نجحوا في كسر حظر التجول وبالتالي نجحوا في تحقيق هدفهم. وربما يكون هذا الشعور بالقدرة على تغيير الواقع بشكل سلمي هو أحد أسباب انحسار العنف في النصف الثاني من ذلك الأسبوع الدموي، أما ما سيحدث في المستقبل فلعله سيتوقف إلي حد بعيد على مدى شعور تلك الفئات الساخطة على الواقع الحالي بوجود قنوات سلمية أخرى تسمح لها بإحداث تغيير حقيقي.