دعنا من كلمة احتفالات، التى لا يمكن أن تقال فوق إهدار دماء وكرامة وأمن واستقرار وطن.. موعدنا فى الميدان غدا لإعلان أن الثورة مستمرة، ولن يفر سارق بما سرق أو يهنأ بجريمته كل من تآمر عليها. أما أول واجبات الوفاء للثورة وللثوار وللدم الشهيد فهو عدم المشاركة فى انتخابات عبثية نتائجها معلنة من الآن، كما كانت نتائج الاستفتاء على دستور الإخوان المطعون على ما فيه من انتهاكات للحريات ولحقوق الإنسان بشهادات أقطاب من التيارات الإسلامية، فى حديث مهم للدكتور عبد المنعم أبو الفتوح فى «المصرى اليوم» بتاريخ 21/1 يقول: إنه لا وسيلة لإسقاط رئيس الجمهورية إلا بصندوق الانتخابات، بينما هو يعرف جيدا أنه فى الأنظمة المستبدة صناديق الانتخابات مفاتيحها ونتائجها فى أيدى القائمين على الحكم.. وتجربة الحزب الوطنى خير شاهد، وكان حزب الجبهة الديمقراطية الحزب الوحيد فى مصر الذى دعا وقاطع تزوير انتخابات 2010.. وكانت النتائج كما توقعنا.. فاز الحزب الحاكم وحده! وكانت النتائج المزورة من أهم مقدمات ثورة 25 يناير.. لا أعرف ماذا تنتظر جميع تيارات وقوى المعارضة والقوى الثورية بعد أن أطلق النظام الرصاص على قانون الانتخابات الذى انتهى إليه ما أطلقوا عليه الحوار الوطنى الذى أقاموه وأداروه بأنفسهم! ماذا ينتظرون بعد لا مبالاة النظام بجميع ما أعلنه ووثقته أكثر من مئة من منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدنى، حتى مجلسهم القومى لحقوق الإنسان من الانتهاكات والخروقات التى حدثت فى أثناء الاستفتاء على دستورهم، يجب أن لا يُلدغ الناخب أكثر من مرة من تزوير وتدليس وإهانة واستخفاف بثقة الناخب وخروجه ليشارك.. ما بال إذا كان لدغ الصناديق لم يتوقف منذ قيام الثورة! لا تشاركوا حتى لا تعطوا شرعية لتزوير برلمان جديد. كان الثلاثاء 25 يناير 2011.. كان مكان التجمع أمام دار القضاء العالى، اختير يوم عيد الشرطة الذى كان من أبرز أيام المقاومة للشرطة الوطنية المصرية.. عندما قاومت فرقة منها حتى آخر جندى محاولة اقتحام قوات الاحتلال البريطانية الإسماعيلية، كانت الجبهة الوطنية للتغيير بمنسقها الوطنى الكبير د.عبد الجليل مصطفى من أبرز حركات الاحتجاج والمقاومة قبل الثورة، وشرفت بعضوية أمانتها العامة وسط مجموعة من شباب الثورة، ومن القامات الوطنية المحترمة، وكان الهدف الأساسى للتظاهر إدانة الممارسات الإجرامية للنظام السابق ضد الحريات وتحويل العقيدة الوطنية للشرطة من حماية وخدمة الشعب، التى هى جزء منه، إلى أداة قمع وإرهاب وتعذيب وقتل لتحقيق الهدف الإجرامى الذى حولت إليه العقيدة الأداء الشرطى، حماية النظام الحاكم، اصطفت مجموعات منا على سلم دار القضاء المواجه للإسعاف وسط القاهرة، وارتفعت الهتافات ضد النظام.. أعداد من رجال الأمن بملابس مدنية، ملامحهم وأداؤهم لا يخفى مهمتهم الرسمية، صنعوا من أنفسهم وتماسك أيديهم حواجز تحاول منع تقدم المتظاهرين أو نزولهم من على سلم دار القضاء.. بشر من كل الأعمار يزحف وتتزايد أعداده.. حتى مرضى يستندون إلى مساند خشبية.. ذكرونى بأننى أسند فقرات عنقى المريضة إلى رقبة طبية.. بالله هل نفد صبر هذه الجموع حتى انهزمت جميع العقبات التى تجعل المشاركة فى الظروف والأحوال العادية مستحيلة.. أبرز ما لفتنى فى المشهد جموع الشباب كأنها أسنة الرماح، تتقدم وتشق الموانع التى حاولت قوات الأمن أن تقيمها.. يبدو أنهم تلقوا تعليمات جديدة بمزيد من إحكام السيطرة.. فى دقائق انهارت هذه السيطرة وسط بحور البشر المتدفقة من رمسيس ومن الإسعاف ومن شارع 26 يوليو، كلها تتجه إلى ميدان التحرير.. نعم أدوات وتقنيات ثورة الاتصال الحديثة فعلت فعلها.. لكن هل كل هذا النمل البشرى الذى يتدفق كالأبراج الصاخبة فى يوم ريح عاتية.. يصرخون وهم يتقدمون وتتعالى نداءاتهم للحرية.. هل كلهم يعرفون ويستخدمون تقنيات الاتصال الحديث؟ إذا كنت أنا لا أستخدمها، عرفت أنى مثلهم ومثل ملايين غيرنا تحركنا بتقنيات الغضب لوطن.. بتقنيات رفض القهر والاستبداد والفساد والإفساد الذى طال ودمر كل شبر فى مصر وجرف مخزون الصبر الطويل والاحتمال الأطول والعيش تحت خطوط دون الكرامة والإنسانية والعدالة والأمان بآلاف الدرجات.. وجوههم، نداءاتهم، حرارة الغضب تقول إنهم حطموا أسوار أكثر من ثلاثين عاما فى زنزانات الفقر والأمية والإقصاء والاستكبار عليهم، دعك من السجون التى قيل إن الإخوان سارعوا لإخراج معتقليهم منها فى الساعات الأولى لقيام الثورة! جاء فى تقرير تقصى الحقائق الجديد أن اقتحام السجون فى أثناء الثورة فعله بعض المساجين بمساعدة الشرطة، والجيش أرسل تعزيزات متأخرة! طالما ظل كل شىء فى مصر ملكا لمن يحكم.. حتى الحقيقة، فأجلوا الكشف حتى تكون جميع الأطراف صاحبة المصلحة فى الإخفاء بعيدة عن السلطة.. ومهما كانت أطراف المخطط الذى شارك فى فتح السجون، فالأهم أن المصريين حطموا السجن الأكبر والأخطر الذى تحول إليه الوطن كله. وكان ورأيت درس الثورة الأول.. الطاقة تكمن ولا تتبدد أبدا، طاقة الحضارة وعبقرية التشييد والبناء وأرصدة العقيدة والإيمان، وفجر الضمير ومقاومة أشكال وصنوف واستبداد الحكم وكسر الإرادة الوطنية مخزونه ينصهر ويتمدد ويشق طبقات القهر ويصعد فوقها.. بدا لى المد الجماهيرى فى الأيام الأولى للثورة كزحف أعاصير الطبيعة والانفجارات الكونية.. وجوه المصريين تكاد تتشابه فى ملامح من أعاد اكتشاف نفسه لمن لم يكونوا يعرفون أنهم بهذه القدرة والقوة.. ملامح من عرفوا الموت ذلًا وقهرا وترويعا وتعذيبا، ولم يعد يختلف أن يموتوا وهم يدافعون عن حقوقهم فى الحياة، بل عرفوا أن الموت الثانى من أجل الحياة أكرم وأفضل ألف مرة. درس الثورة الثانى.. اكتشف المصريون ماذا يستطيعون إذا توحدت صفوفهم ووضعوا أيديهم فى أيدى بعضهم، ليس مدهشا أن يكون من أهم ملامح الأيام والأحداث الصعبة التى تعبرها مصر الآن تقسيم وتفتيت المصريين ونسف الوحدة التى كانت من أسباب نصر الله لثورتهم، واستبدال وحدة الصف والمواقف إلى إرباك وتشتيت يصل ببعض رفقاء الميدان إلى أن يتقاتلوا! جميع الانحرافات التى فرضت على مسارات الثورة بدت كأنها كانت تسعى لتحديد هدف شيطانى أن ينفرط الصف الوطنى ويتمزق ليفقد القدرات التى يحققها بتوحده، ثم استنفاد وتبديد الطاقات المدهشة التى كشفت عنها الثورة للشعب كله، خصوصا لأبنائه من الشباب، وتفريقها بعيدا عن تحقيق أهداف الثورة.. استثمار طاقات الأجيال الشابة التى كانت الرؤوس الضاربة والدماء الشهيدة التى ضحت، تمكين هذه الأجيال مع تزويدها ودعمها بخبرات الأجيال الكبيرة من الأبناء والتيارات والقوى الوطنية التى شاركت فى التمهيد للثورة، كان التمكين المشروع الوحيد الذى يجب أن يحدث.. ولم يحدث.. وسلمت القيادة والوصاية لمن لا علاقة لهم بالثورة -المجلس العسكرى- وللجماعة التى كان أدق وصف لموقفها آخر من التحق بالميدان وأول من نادى بمغادرته. الثورة كانت إرادة شعب بأكمله. وما يحدث الآن تمكين جماعة وحدها.. واتخاذ جميع الإجراءات وإصدار القوانين التى تشرع وتقنن القضاء على الثورة.. طالبنا بأن تكون مصر برعاية الكفاءات العظمى من جميع خبرات أبنائها من مختلف التيارات والقوى الوطنية، ثقل التجريف والتدمير الذى حدث طوال أكثر من ثلاثين عاما لا يستطيع أن يحمله فصيل سياسى وحده ما بال إذا كانت قدراته وخبراته السياسية شديدة التواضع ومشروعه وهمه الأكبر كما يتأكد كل يوم لتمكين جماعته وليس لتمكين وطن بأكمله! المخاطر والنذر السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية والأخلاقية تتكاثف ويزداد انهيار مستويات أمن المواطن وغموض جميع معطيات الواقع حوله.. كل ما يحدث فى مصر الآن يفرض إعادة استجماع الطاقات الهائلة للمصريين التى كشفت عنها الثورة، وللأسف لم تجد من يجمعون ويرشدون استثمارها واسترجاع وحدة الصف الوطنى، وكل ما يبدو الآن وكأن القضاء عليه ضرورة ليستسلم المصريون لمخطط تمكن وتمكين لم يكشف منه إلا أقله حتى الآن! لا نحتاج الخروج غدا لتفسير أو توضيح أو لإعلان أسباب لضرورة أن يكون الميدان -غدا- موعدنا.