لا أعلم كيف سارت أمس المرحلة الأولى من الاستفتاء على مشروع الدستور الذى وضعته جماعة الإخوان المسلمين وحلفاؤها من السلفيين، وهل تمّت أصلا أم لم تتم، ولا أعلم حتى إن كنت أنا نفسى ذهبت إلى التصويت أم لا، فكل شىء صار عبثا فى عبث، فلا الاستفتاء قانونى ولا مشروع الدستور قانونى ولا اللجنة التأسيسية التى وضعته قانونية، ولكن لا شىء يهم فلم يعد للقانون معنى ولا للقضاء سلطة، فالميليشيات المسلحة ظهرت عيانا بيانا، والتهديدات تحوّلت إلى واقع، والإرهاب صار عنوانا للحقيقة وسيفا على رقبة كل صوت مخالف، ولغة القوة أصبحت هى اللغة الوحيدة المسموعة، والتدليس والكذب والسب والقذف وتلبيس الحق بالباطل والباطل بالحق بل وقتل النفس التى حرّم الله إلا بالحق، كلها معان صارت مرادفا للتديّن فى دولة الإخوان المسلمين. هل هناك معنى إذن لما أكتبه أو يكتبه غيرى؟ هل هناك داع لحوار وطنى؟ هل هناك ضرورة لنضال فى سبيل ثورة لتستمر أو لتموت للأبد؟ هل هناك سلطة تسمع من الأساس؟ باختصار هل هناك أى أمل؟ والله لولا دماء الشهداء لمات الأمل ودُفن معهم للأبد، الشهداء الذين رافقتُهم ورأيتُهم يسقطون أمامى وخلفى وجوارى فى كل أحداث ثورة الخامس والعشرين من يناير وحتى الآن، هؤلاء الذين لا أعلم كيف أخطأتنى الرصاصة فى كل مرة وأصابتهم وكأنهم افتدونى بها فى كل مرة، هؤلاء الذين سرتُ فى جنازاتهم أو لم أستطع لانشغالى بعمل أو بمشوار أسرى، فلم أعد أحصى أعداد الشهداء الذين تحوّل معظمهم إلى أرقام غير مؤكدة، بينما تحوّل قليل منهم إلى أيقونات نضعها على صدورنا لنذكّر أنفسنا بأن ثورة ما مستمرة قبل أن نخلع تلك الأيقونات حتى لا تزعجنا أشباح أصحابها فى أثناء نومنا. دماء فدماء فدماء، جنازات وجنازات وجنازات، حتى أصبحتُ فى كلّ مرة أتخيّلها جنازتى وأرانى وقد حملنى العشرات أو المئات أو الآلاف وأسمع الهتافات التى ستتردّد فيها والتى تتّهم سلطة ما أو أنصارها بقتلى لأننى ظللت أقول «لا». وها هم يصرخون هل تخرج الجنازة من نقابة الصحفيين إلى ميدان التحرير لتتّم الصلاة فى عمر مكرم، أم يحدث العكس لتتحرك من التحرير إلى النقابة، المهم سيهتف كثيرون ويصرخ كثيرون ويبكى كثيرون ويذهب قليلون مع الجثمان وينتظرهم كثيرون آخرون حيث يتم الدفن فى مقابر الأسرة فى كفر الشيخ. أرى أصدقائى وإخوتى على صفحات «الفيسبوك» وقد غيّروا صور بروفايلاتهم بصورى، فهذا قد اختار واحدة لى وأنا فى ميدان التحرير، والآخر فضّل صورة وأنا أرتدى قناع الغاز، وثالث اختار صورة لى مع ابنى أو زوجتى أو مع والدى ووالدتى وإخوتى، وآخر اكتفى بوضع صورة سوداء حدادا قد يستمر أسبوعًا كاملا قبل أن يعود إلى حياته الطبيعية واضعا صورته وهو فى المصيف. أراهم وقد انتقوا قصائد مما كتبتُ تنتصر للثورة أو تهاجم نظاما مخلوعا أو نظاما انتقاليا أو نظاما حاكما ما زال، فهذه كتبها ناعيا خالد سعيد، وتلك أدان فيه سارقى الثورة، والثالثة الأخرى عن الشهداء عماد عفت ومينا دانيال وعلاء عبد الهادى، وواحدة لم تكتمل عن جيكا أو الحسينى، وخامسة عن حبيبة ما تخيّلها وربما يجدون فيها ما يقولون إنه كان بُعدًا وطنيا أو نبوءة ما بالرحيل. آخرون سيفضّلون المقالات لأنها أكثر مباشرة وأكثر صراحة ويبدؤون فى إعادة نشرها، خصوصا تلك التى كتبها فى عهد مبارك يدعو فيها لإضراب السادس من إبريل، أو التى هاجم فيها سوء إدارة المجلس العسكرى للمرحلة الانتقالية، لا بالتأكيد كانت هذه هى الأقوى وهو لا يخشى فيها مهاجمة مرشد الجماعة، أو تلك التى يؤكد فيها أن محمد مرسى ليس رئيسًا لكل المصريين بل هو مجرد عضو فى جماعة الإخوان يأتمر بأمر مرشدها، وفى كل الأحوال ستجد المقالات من يهاجمها من جديد ويتهم صاحبها بأنه عميل ومموّل من الخارج وكافر وعلمانى وفوضوى وقد يسمّينى البعض المقبور ويستخسرون فىّ لقب الشهيد، مع أن الكل يعلم أن الله وحده سيصنّف وسيحكم وسيرحم من يشاء ويدخل من يشاء جناته بغير حساب. ستظهر صورتى فى صحف عديدة، وستجاملنى مجلتى بموضوع كبير ربما يمتد على أربع صفحات بها كلمات رثاء حميمية وصادقة وربما بضع صور زنكوغرافية لموضوعات وحوارات قمت بإعدادها وكتابتها عبر أكثر من عشرين عاما، وربما سيجاملنى أصدقاء وإعلاميون وقد يخصّصون فقرات كاملة قد تمتد إلى عشرة دقائق كاملة للحديث عنى وعن مشوارى الطويل مع المهنة قبل أن يضطرون إلى الخروج لفاصل إعلانى أطول يتغنّى بمميزات الجبن والسمن والسيارة والعلبة الذهبية. رحم الله الحسينى أبو ضيف ورحم شهداءنا جميعا من عَلمْنا منهم ومن لم نعلم، وألحقنا بهم فى سبيل الحق.