من الأخطاء الشائعة أن العالمانية هى فصل الدين عن الدولة. وهى جملة توحى بتنحية الدين وعزله. لكن الحقيقة أن العالمانية هى «الفصل بين الدولة والدين». وهى بهذا تعنى أمرين متلازمين: (1) حماية الدولة من سيطرة رجال الدين عليها (2) حماية الدين من استغلال رجال الدولة له لتحقيق مصالحهم. وحمايته أيضا من قمع الدولة لمعتقدات الأفراد. أريد هنا أن ألفت نظرك إلى أن قمع الدين فى دول كروسيا وتركيا لا علاقة له بالعالمانية فى شىء.. تلك كانت سلطوية ملحدين. الخدعة الثانية فى تلك الجملة هى الإيحاء بأن الدولة مرادف للبلد، وبالتالى الإيحاء بأن العالمانية تسعى إلى فصل الدين عن حياة أهل البلد. وهذا كلام عار عن الصحة. الدولة مصطلح سياسى له معنى محدد يشمل المؤسسات والوزارات… إلخ. وأبرز مثال على ذلك هو العلاقة بين الدين والدولة فى الولاياتالمتحدةالأمريكية. هل يعنى هذا أن القوانين فى الدول العالمانية تضرب بالدين عرض الحائط؟ هذه خدعة أخرى يريد الإسلامجية ترويجها. بالطبع لا. صحيح أن القوانين فى الدولة العالمانية لا تنال قوتها التنفيذية من كونها مستمَدَّة من الشريعة اليهودية أو من التعاليم الدينية المسيحية أو من الشريعة الإسلامية. لكنها فى نفس الوقت نابعة من المجتمع الذى يختار نوابا عنه لتشريع القوانين. البلد الذى غالبيته مسلمون سينعكس هذا فى اختيار النواب فى مجلس الشعب. وهو ما سينعكس بدوره فى القوانين التى سيشرعها هذا المجلس. ما الفارق إذن بين الدولة التى تريد اللجنة التأسيسية إنشاءها، وبين الدولة التى ينشئها المجتمع ذو الأغلبية المسلمة؟ الفارق أن اللجنة التأسيسية الحالية تريد بناء دولة دعاماتها رجال الدين الذين يدين لهم السلفيون والإخوان بالولاء. فتصير سلطة النائب على ونيس -كونه حائزا معارف شرعية- أكثر من سلطة نائب آخر منتخَب فى نفس المجلس، حتى لو كان النائب الآخر أكثر علما ودراية بالسياسة والإدارة والاقتصاد. هذا فضلا عن سلطة رجال الدين غير المنتخَبين الذين يريدون أن تكون لهم الكلمة الأخيرة فى إقرار القوانين من عدمه. فهم يعترضون -مثلا- على تجريم الرِّق، حتى لو كان أغلبية الشعب المصرى لا تستسيغه. وما الخطورة فى هذا؟ الأخلاق المجتمعية هى حصيلة أمور كثيرة، منها الدين، ومنها العُرف الاجتماعى، ومنها تراكم المعرفة التاريخية والبيئية، ومنها المعرفة العلمية. اختيارات الأفراد محصِّلة لهذه الأمور جميعا حسب أولوياتها بالنسبة إلى كل فرد. وهى تختلف بالطبع عن اختيارات أى نخبة منتقاة، سواء «النخبة الدينية» كما يريدون أن يفعلوا فى الدستور الحالى. أو حتى «النخبة العلمية» لو افترضنا أن هناك بلدا يريد أن يجعل «العلم» مرجعيته الحتمية. لكنك بهذا تساوين بين الدين والعلم؟ وهذا غير جائز؟ الدين مقدس! هذه إشاعة أخرى. بل أخطر الإشاعات السابقة جميعا. إننا فى القرن ال21، وبعد 1400 سنة من الرسالة الإسلامية، لم يعد مناسبا أن نتحدث عن «ال» دين، بألف ولام التعريف إن كان غرضنا أن أحكام الدين متفق عليها. القرون السابقة أثبتت لنا أن تأويلات الدين متعددة، وأن القتال على التأويل بدأ منذ عهد الصحابة. قال عمار بن ياسر لخصومه من الصحابة والتابعين فى جيش معاوية «قاتلناكم على تنزيله، واليوم نقاتلكم على تأويله». هذا بعد نحو 20 سنة فقط من وفاة النبى محمد. فما بالك بعد 1420 سنة من وفاته! ما بالك بعد أن جدّ على حياتنا ملايين التغييرات التى تحتاج كلها إلى تفسيرات وتأويلات! هذه نقطة. النقطة الثانية، أن الحضور العلمى فى حياتنا أشد من الحضور الدينى بمعناه التنظيمى الإدارى، بمعناه الاقتصادى، بمعناه الطبى، بمعناه التجارى. هذه هى الحقيقة التى نخجل من التصريح بها. وجود الإسلام فى دولة كباكستان أو السعودية أو مصر أو إيران أو تركيا، لم يجعل هذه البلدان أفضل من غيرها إدارة واقتصادا وطبا وتجارة، بل ولا حتى أخلاقا. وبالمثل لم تجعل المسيحية أوغندا والكاميرون والفلبين أفضل من غيرها. ولا جعلت البوذية نيبال وميانمار أفضل من غيرهما. إنما «التفكير العلمى» والمنطق + شيوع التعليم + الديمقراطية جعل أمريكا وبريطانيا وفرنسا واليابان والسويد، وكلها دول عالمانية، أفضل نسبيا من غيرها. وجعل من كان منها فى السابق تحت سيطرة دينية فى وضع أفضل حاليا. الدستور الحالى يريد أن يخترع العجلة.