دائما ما ينشغل عقل البنى آدم منّا بأشياء كثيرة.. أى عقل مهما كان فارغا.. تأكدوا أنه منشغل بشىء ما.. ولكن.. دائما ما يكون الشىء الأكثر إزعاجا للعقل عندما ينشغل به هو ما الذى يفترض أن يشغل البنى آدم منّا عقله به؟! بصفتى مواطنا مصريا.. هل ينبغى عليّا أن أنشغل بتفاصيل العلاقة الغامضة بين الجيش والشعب والتى جعلتهما بعد أن كانا إيد واحدة يعودان إلى طبيعتهما المتمثلة فى أنهما إيدين إتنين.. مش إيد واحدة؟!.. طب بصفتى مواطنا أفريقيا..هل ينبغى عليا أن أنشغل بأخبار الثورات فى تونس وليبيا أم بمأساة المجاعة فى الصومال؟!.. طب بصفتى مواطنا عربيا.. هل ينبغى عليّا أن أنشغل بذلك الكونتراست المذهل بين كل تلك الزكايب من الفلوس وكل تلك البراميل من البترول وبين كل تلك الزكايب من الجهل وكل تلك البراميل من التأخر والتخلف والارتداد للوراء؟!.. طب بلاش كل ده.. بحكم انتمائى إلى العالم على بعضه كموطن أعم وأشمل وأجمع واللى يسرى عليه يسرى عليّا.. هل ينبغى عليّا أن أنشغل بتلك الأزمة المالية العالمية العنيفة التى ضربت اقتصاد العالم فى منطقة حساسة فجثا على ركبتيه (دا اللى هو الاقتصاد) وأصبح غير قادر على التنفس أم ينبغى عليّا أن أنشغل بمشكلة الإحتباس الحرارى وبقرب إنتهاء موارد الكوكب الطبيعيه؟! كل تلك الأحداث التى تحدث ليلا ونهارا على مدار 24 ساعة يوميا فى جميع مدن وبلاد وقارات ومناطق كوكبنا الأرضى العزيز.. كل ذلك التاريخ الممتد والضارب بجذوره فى ماض سحيق مكون من ملايين السنين..هل هناك متسع من الوقت فى عمر البنى آدم منّا للجمع بينه وبين كل تلك الأحداث التى تحدث الآن بالفعل.. والتى يلزم لفهم معظمها معرفة جذورها التاريخية؟ طيب.. إذا استطاع عقل البنى آدم متابعة ما يحدث الآن.. وإذا استغل البنى آدم وقته فى التعرف على تاريخ بنى جنسه.. هل يظل هناك متسع من الوقت أمام البنى آدم مِنّا لإنجاز عمله الخاص الذى جاء إلى تلك الحياه لإنجازه.. وهل يظل هناك متسع من الوقت للربط بين أحداث التاريخ وأحداث زمننا الحالى ومحاولة الخروج من ذلك الربط بعظة ما.. أو بقاعدة تاريخية معينة تساعد البنى آدم مِنّا على القفز إلى المستقبل (القفز مش العبور).. هل هناك متسع من الوقت لقراءة كل الكتب التى تستحق القراءة.. ومشاهدة كل الأفلام التى ينبغى مشاهدتها.. والاستماع إلى كل الأغانى الجميلة.. وزيارة كل الأماكن المختلفة على كوكب الأرض؟! المشكلة الحقيقية.. أن البنى آدم منّا إذا أراد أن يصبح باستمرار متصلا بالعالم من حوله.. متابعا لأخباره المتلاحقة.. محاولا الخروج من كل تلك الأحداث التى لا تتوقف عن الحدوث أبدا بحكمة ما.. رابطا بينها وبين أحداث الماضى.. فسوف يتحول إلى أشبه ما يكون بجهاز الكمبيوتر.. ومع الوقت سوف ينسى تماما حكاية الحكمة اللى المفروض يخرج بيها من كل تلك الحكايات.. وسوف ينصرف تركيزه كله إلى الحكايات نفسها.. وعلى الجانب الآخر إذا قرر البنى آدم منّا أن الحكمة من الحكاية لها الأولوية على الحكاية نفسها وقرر الانعزال قليلا.. وأطفأ جهاز التليفزيون وأغلق الكمبيوتر وعمل الموبايل سايلانت.. فمن المؤكد أن كل ثانية ينعزل فيها عن العالم سوف تحتوى على أحداث جديدة سوف تفوته معرفتها.. يانهار اسود.. طب ماذا يفعل البنى آدم مِنّا أمام ورطة سودا مثل تلك؟! كل تلك التساؤلات التى تمتلئ بها الكتابة من شأنها أن تفضى بالبنى آدم مِنّا إلى أحد ثلاث طرق اثنان منهما «عَوَء».. والثالث هو الذى ينبغى على العاقل أن يسلكه.. فأما عن الطريقين العوء.. فأولهما هو الطريق الذى سوف تسلكه بعد أن تقرر بشكل منطقى بحت أنه لا الدماغ ولا العمر فيهما ما يكفى للتعرف على تاريخ جنسنا البشرى كاملا.. بالإضافة إلى متابعة أحداث العالم اليومية ومشاهدة نشرات أخباره وبرامجه وقراءة جرائده.. والنتيجة الحتمية للسير فى هذا الطريق هى الاكتئاب الذى سوف يفضى إلى الأنتخة المصحوبة بأصداء تردد جملة مثل تلك فى اللاوعى بتاعك.. «إنشالله تولع»! وثانيهما.. هو الطريق الذى سوف تسلكه بعد أن تقرر التعرف على كل أحداث الماضى والتاريخ.. بالإضافة إلى متابعة ما يحدث الآن بالفعل.. والنتيجة الحتمية للسير فى هذا الطريق هى تحولك مع الوقت إلى ما يشبه الإناء الكبير الممتلئ بجميع أنواع الخضار واللحوم.. ولكنه للأسف نى.. ولا توجد نار لإنضاجه والخروج منه بطبخة مفيدة ومتسبكة! كان هذا عن الطريقين العَوَء.. فأما بقى بخصوص الطريق الثالث.. فهو الذى يقتضى سيرَك فيه معرفة حقيقة حياتية هامة جدا جدا جدا.. ألا وهى.. أن المعرفة ملح.. ليست مطلوبة فى حد ذاتها بقدر ما هى مطلوبة لجعل طعم طبخة الحياة حلو ومتسبك ومظبوط.. بس!