كانت منارة العالم لعدة عقود وإحدى أهم الحواضر، والعاصمة المركزية للأمبراطورية العباسية الأقوى في زمانها، إنها بغداد التي أسهمت بجزء كبير في صنع الحضارة والوجدان الإنساني علميا وثقافيا، عاصمة هارون الرشيد والمأمون، وأرض الإمام أبو حنيفة وأحمد بن حنبل والمتنبي وأبو الأسود الدؤلي وغيرهم من المثقفين والعلماء، يطل عليها شهر رمضان الكريم هذا العام، وأهلها يعيشون في خطر اجتياح الهمجية الداعشية التي تحكم السيطرة على مناطق كبيرة من بلاد الرافدين، للعام الثاني على التوالي في الموصل والأنبار وأجزاء من صلاح الدين وكركوك. ولم يكن داعش هو مصدر القلق الوحيد للعراقيين في شهر رمضان، فكساد الأسواق التجارية بسبب سيطرة داعش الكبيرة، والوضع الاقتصادي المنهك للمواطن العراقي، وفوق كل ذلك وهاك ارتفاع كبير لدرجة الحرارة التي وصلت حتى 45 درجة مئوية. وبعد إعلان رئيس الحكومة حيدر العبادي رفع إجراءات حظر التجوال الليلي في بغداد، سيكون بوسع العراقيين هذا العام إحياء ليالي شهر رمضان دون تقييد كما اعتادوا في السنوات الماضية، حيث أتاح القرار للعراقيين التنقل بين المناطق بحرية دون قيود و أتاح للأسواق التجارية والمطاعم مواصلة النشاط حتى ساعات متأخرة من الليل. وأعلنت السلطات الأمنية اتخاذ تدابير احترازية خلال رمضان في الشوارع وقرب أماكن تجمع العراقيين في الأسواق والمراكز التجارية والشوارع الرئيسية وقرب المزارات الدينية والمساجد تحسبا لوقوع أعمال عنف. وقالت السيدة وصال السامرائي، معلمة، :"بالتأكيد أن أجواء القتال مع داعش تشكل مصدر قلق على العراقيين لأن هناك ضحايا لهذه الحرب وهناك المئات من العوائل النازحة التي تعيش الآن في مخيمات تحت وطأة ارتفاع كبير في درجات الحرارة وانعدام الخدمات فضلا عن الوضع النفسي السيء للنازحين". وأضافت :"نأمل أن يكون هذا الشهر محطة لمراجعة النفس ونبذ العنف والطائفية وأن يعود العراق إلى سابق عهده موحدا ويعيش أبناؤه في أمن واستقرار". بينما قال حافظ مهدي 52 عاما، متقاعد، :"رمضان شهر الخير والبركات وله أجواء وطقوس متوارثة في العراق ، لكن إحياء لياليه أصبح صعبا بسبب فقدان الأمن والانشغال في محاربة داعش الذي يحتل مناطق مهمة من العراق وخاصة مدينتي الموصل والأنبار". وأضاف :"نحن كشعب عراقي بأمس الحاجة للتلاحم والتكاتف ومحاربة النزعة الطائفية التي تقودها بعض التيارات والاحزاب والشخصيات في الحكومة وتريد تمزيق العراق وجعله دويلات صغيرة". أما بخصوص النازحين المرابطين على ضواحي بغداد، اللذين يعانن من اوضاع معيشية متهالكة، تقول أم هارون، وهي نازحة من أهالي الفلوجة "سأستقبل الشهر الفضيل، لأول مرة في حياتي خارج منزلي وبعيدا عن جيراني وأقاربي بسبب الأحداث التي حصلت في الأنبار ومناطق أخرى من العراق لسيطرة "داعش" على مدينة الفلوجة، مسقط رأسي". وتضيف أم هارون وهي أرملة ولها 4 أبناء، "أُجبرنا على مغادرة منازلنا قبل عدة أشهر بسبب سيطرة تنظيم "داعش" على المدينة والإرباك الكبير الذي حدث في مدينتنا"، مشيرة إلى أن "لا أمان في مناطقنا في ظل وجود مسلحين يعبثون بحياة وأمن المواطنين المدنيين". وتحمّل أم هارون سياسيي الأنبار وحكومة بغداد، مسؤولية سقوط بعض المدن بيد تنظيم داعش بالقول أن "ممثلي الأنبار في مجلس النواب وحكومتها المحلية يتحملون مسؤولية سقوط المحافظة بسبب بعدهم عن المواطنين واهتمامهم بمصالحم الشخصية"، مطالبة ب "توفير الأجواء الآمنة في الأنبار من أجل تأمين عودة العوائل المحافظة التي عانت الكثير". خنساء بشير نازحة من محافظة تكريت، ترى أن "عوائل محافظتها تعاني الكثير في الوقت الحالي لأسباب تتعلق بالحكومة المحلية، لأن تكريت تحررت منذ فترة طويلة لكن بناها التحتية مازالت غير مستقرة، لذلك فإن أغلب العوائل بقيت في خارج المحافظة بانتظار عودة الحياة الطبيعية إلى محافظة صلاح الدين". والوضع في سوق "الشورجة"، أحد أعرق أسواق العاصمة العراقيةبغداد، يقف العتال عليّ متعجباً وهو يراقب حركة المارة والمتبضعين، التي تكاد تكون شبه متوقفة. حال السوق اليوم لم تكن نفسها في شهر رمضان من العام الماضي، قبل أن تبدأ الحرب بين القوات العراقية و"تنظيم داعش"، وعندما كان عمل عليّ مزدهراً، وهو يجر عربة خشبية لنقل بضائع المشترين، الذين يقبلون على شراء مستلزماتهم للشهر الفضيل قبيل قدومه وفي أول أيامه، الأمر الذي كان ينعش الأسواق وعمل علي بشكل كبير. ويقول علي لوكالة "الأناضول" إن "واقع سوق الشورجة مزر، والعمل شبه متوقف، ونشاط السوق يكاد لا يذكر مقارنة بالأعوام السابقة، فالوضع الأمني المتردي ألقى بظلاله على جميع مفاصل الحياة". ولم يعد بإمكان عشرات التجار من محافظات شمال وغرب العراق التبضع من بغداد جراء سيطرة تنظيم "داعش" على مناطقهم، وانعدام الممرات الآمنة بين تلك المناطق، كما استنزفت الحرب، المستمرة منذ نحو عام، الكثير من الأموال، ما أدى إلى خفض الإنفاق الحكومي على دعم الفقراء. وتفاقمت الأزمة المالية في العراق، الذي يعتمد على إيرادات بيع النفط لتمويل 95% من النفقات السنوية، مع انخفاض أسعار النفط بنحو 50% مؤخراً، ما أدى إلى تراجع سعر الدينار العراقي مقابل العملات الأجنبية. أبو أسعد أحد المتبضعين في سوق الشورجة، يعتقد أن تراجع سعر العملة المحلية ترك أثرا بالغا في قدرة المواطنين الشرائية مقارنة بالعام الفائت. ويقول: "تراجع القوة الشرائية للمواطن العراقي هذا العام يرجع إلى ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الدينار العراقي، مما أدى لارتفاع أسعار المواد الغذائية بصورة عامة، لا سيما المستوردة منها".