فى اليوم التالى لصدور الصحف حاملة نبأ استشهاد «سائق وثلاثة قضاة»، صدرت ذات الصحف حاملة نبأ تنفيذ حكم الإعدام فى ستة متهمين، أدانتهم محكمة عسكرية بارتكاب جرائم إرهابية، قبل أكثر من عام، وهى تربط بين الحدثين باعتبار أن تنفيذ الحكم جاء ثأرًا للسائق والقضاة. الجدل الكبير الذى صاحب تنفيذ حكم الإعدام، واستغرق فى تفاصيل القضية المعروفة بعرب شركس، ما بين مؤيد لقرار إعدامهم ومعترض ومتعاطف ومشكك فى أدلة الإدانة وسير المحاكمة، ظل ككل الجدل القائم فى مصر منذ سنوات «جدل مكايدة» يهدف فيه كل طرف إلى الانتصار لمعسكره، وليس نقاشًا عامًّا يمكن تطويره أو الخروج منه بتصورات يمكن أن تساعد فى التعاطى مع قضية مثل عقوبة الإعدام بعد إفراغها من أى مضمون سياسى. قرار تنفيذ حكم الإعدام فى حد ذاته كان قرارًا سياسيًّا، وليس مجرد قرار إدارى بتنفيذ حكم، بالنظر إلى الربط بينه وبين جريمة اغتيال «السائق والقضاة» فى العريش فى إطار الثأر، وربما قطع هذا التنفيذ المفاجئ الطريق على دعوى كانت منظورة أمام القضاء الإدارى لوقف تنفيذ الحكم، أو حتى الالتماس لرئيس فى ضوء صلاحياته، وفى ضوء معلومات متداولة حول تواريخ القبض على بعض المتهمين الذين نُفذ فيهم حكم الإعدام والتى يقال إنها تسبق تاريخ الجريمة التى أدينوا بارتكابها، وهو كما أعرف مخالف لضمانات الأممالمتحدة الصادرة فى عام 1985، والتى تنص فى حالة الدول التى ما زالت تطبق عقوبة الإعدام على أنه «لا تنفذ عقوبة الإعدام إلى أن يتم الفصل فى إجراءات الاستئناف أو أية إجراءات تتصل بالعفو أو تخفيف الحكم». كل تلك ملابسات تفتح الباب لأسئلة ونقاشات عديدة، لكن ما كان لافتًا تحديدًا فى معسكر الرافضين لتنفيذ حكم الإعدام أنهم لا يمثلون اتجاهًا واحدًا ولا قناعة ثابتة من العقوبة كعقوبة، فالإسلاميون ومن بينهم الإخوان طبعًا يدينون أحكام الإعدام وتنفيذ حكم «عرب شركس»، لكن هذه الإدانة لا تنسحب على موقف مماثل من عقوبة الإعدام ككل، ولم نسمع فى أدبيات الجماعة ولا مواقفها حتى الثالث من يوليو 2013 أى موقف متحفظ من الاستمرار فى معاقبة المتهمين بعقوبة الإعدام، بالعكس كان الإعدام دائمًا مطلبًا للإخوان وقوى ثورية فى التعامل مع القضايا المتهم فيها الرئيس الأسبق حسنى مبارك ورموز نظامه، ومن أبرز مشاهد عمر الزهو الإخوانى القصير مشهد المرشد محمد بديع وهو يلقن الرئيس الأسبق محمد مرسى الذى كان مرشحًا وقتها كلمة «القصاص» ليضمنها كلمته المرتجلة فى مؤتمر صحفى. من وسط هذا الجدل الكبير الذى يحركه الإخوان وبعض النشطاء، لا يوجد موقف منهجى ضد عقوبة الإعدام، وإنما رفض لإعدام من نتعاطف معهم، ورغبة فى إعدام من نكرههم ونخاصمهم، والمنطق ذاته فى المعسكر الذى رحب بالإعدام أحكامًا وتنفيذًا، وكان طوال أربعة أعوام مضت يعارض المطالبات بإعدام مبارك بدعوى سنه، مع تأييد إعدام من هم فى سنه. الإعدام فى مصر صار رفضًا وتأييدًا مجرد موقف سياسى، لا يعبر عن أية معايير أخلاقية أو قيمية، كما ثبت أن تنفيذ هذه الأحكام يعبر عن موقف وإرادة سياسية أيضًا، ولم يبقَ سوى أن تعبر الأحكام أيضًا عن إرادة سياسية بما يحيطه العوار الذى لحق بأكثر من حكم، وسمح بإدانة متهمين متوفين أو محتجزين من قبل تاريخ ارتكاب الجرائم التى حوكموا فيها. هنا دخل الإعدام دوامة الاستقطاب السياسى، وغرق المجتمع فى هذا الاستقطاب دون أن يبدو مستوعبًا لضرورة مناقشة إلغاء الإعدام كعقوبة، أو على الأقل تقييدها بمزيد من الضمانات الصعبة التى يمكن من خلالها التحسب للتردى فى كفاءة أجهزة التحرى والتحقيق، والتأثيرات السياسية على مسار القضايا. يقول قانون العدل: «أن يفلت ألف متهم خير من أن يدان برىء واحد»، ويقول قانون الفتن: «أن تضحى بألف برىء خير من أن يفلت مدان واحد»، ونحن بالفعل فى فتنة منذ أن استسهل محمد مرسى «الديمقراطى المنتخب» التصريح بسهولة التضحية «بكام مليون» حتى يعيش باقى الشعب، وأعاد السيسى ذات التنظيرة بالحديث عن التضحية بجيل وجيلين. نريد الانتقال من الفتنة إلى العدل، فالعدل فقط يخمد الفتن، وغيابه يزيدها توحشًا.. ولله الأمر.