هل أكون واهمة حين أقول إننى رأيت الأبنودى فى عزائه؟ كل شىء كان يوحى بأنه هناك.. روحه كانت هناك.. لم يكن عزاؤه تقليديًّا بأى حال من الأحوال. لم يكن هناك بكاء، بل كانت هناك حالة من السكينة والهدوء تخيم على سرادق العزاء، وكأن كل الحضور من المعزين قد راحوا يسترجعون أبيات الأبنودى، ويسمعون صوته يطلب منهم أن لا يستسلموا للحزن، ويطمئنهم بأنه سيظل باقيًا معهم. نفس البساطة والدفء اللذين كان يستقبلك بهما الأبنودى كانا موجودين عند زوجته وابنتيه، بل إن السيدة نهال كمال كانت هى التى تواسى المعزين، وهى التى تحتاج من كلٍّ منا إلى أن يواسيها، لكن كيف نحتاج إلى المواساة والخال لا يزال حاضرًا معنا؟ «إن جالك الموت يا وليدى.. موت على طول» ليه يا خال؟ ليه سيبتنا وانت اللى قلت: ما أتْعَس موت الأشياء والزَّمن انْ جَفّ.. ولا يصْبَحْ للأشياء.. ضحكة -ولا روح- ولا كَفّ.. وانت يا خال لما سيبتنا كل الأشياء ماتت والزمن جف. ما عاد فيه حاجة بتهوّن علينا غير أبياتك اللى بترن جوانا بصدى صوتك. لسه ضحكتك بتهزنا وآهاتك بترجنا. لساك جوانا يا خال. لم أعرف أبدًا أن أقول له يا خال. فى كل مرة كنت أحدثه فيها كنت أستغرب كيف أنى أهاتف الشاعر الكبير العظيم وأراجع معه قصائده. كان لسانى لا يعرف إلا أن أقول له يا أستاذ عبد الرحمن، رغم كل دفئه وبساطته ورحابته لم أستطع إلا أن أكتب اسمه «الأستاذ عبد الرحمن الأبنودى». لم تطاوعنى يدى فى كتابة اسم «الخال» إلا بعد وفاته، وكأنى شعرت بأنه كان جزءًا منى ومن روحى، وسيظل هكذا دائمًا. هو الأستاذ والشاعر الكبير، وهو الخال الذى لم أبكِ على أحد بعد وفاته مثلما بكيت عليه. بكيت وأنا أفكر كيف سأفتقده وسأفتقد مكالماته الهاتفية وصوتى وأنا أقول له صباح الفل يا أستاذ عبد الرحمن. وظللت أحكى عنه لكل من يقابلنى. أحكى عن بساطته ووده وقفشاته. كيف كان يرسل إلىّ أشعاره مذيلًا إياها بعبارة «الآنسة نانسى.. عليها السلام». وتحتها توقيعه.. «الخال». كيف كان يراجع ويدقق فى النقطة والفاصلة والسكون والشدّة والتنوين. كيف كان حريصًا على التجويد، رغم أن إبداعه لا يمكن أن يكون هناك ما يفوقه، لكنه فى كل مرة كان يُعدِّل ويُحسِّن ويُدقق. فى كل مكالمة كنت أختمها ب«تسلم إيدك يا أستاذ عبد الرحمن». يضحك معى ويمازحنى قائلًا: «كل مرة تسلم إيدك؟»، أضحك وأقول له «ما هو كل مرة أحلى من اللى قبلها». والآن لم تعد هناك مرات جديدة، لكنى ما زلت فى كل مرة أقرأ فيها أبياته أقول له تسلم إيدك يا أستاذ عبد الرحمن. تسلم إيدك التى أسعدت الملايين وستظل تسعدهم بوجودك معنا حتى لو كان فى وسط عزائك.