حرب شرسة تدور حول التراث البحثى الإسلامى هذه الأيام.. حرب بين شيوخ يتهمون المفكرين بإنكار التراث، ومفكرين يتهمون الشيوخ بجمود الأفكار وتقديس التراث.. وهذه الحرب عجيبة للغاية، ربما لأنها تشبه تلك التى دارت فى أوروبا العصور الوسطى، وانتهت بفوز الفكر، الذى انطلق بأوروبا كلها كالصاروخ، فى رحلة التطوّر والحضارة! عجيبة لأنها تدور بين طرفين يتفقان فى الهدف وأساسه ويختلفان فى تفاصيله. فالمفكرون لا يستطيعون إنكار التراث لأنهم مفكّرون، وأى مفكّر يدرك أنه من العبث إنكار التاريخ، لأن التاريخ سيفرض نفسه مع الوقت، وإن كره العالمون.. وأى مفكّر يدرك أيضا أن التراث أمر صنعه بشر، ويستحيل أن يوقف أحد الزمن عنده، لأن الزمن يسير، مهما فعل المتضرّرون من هذا أو قالوا أو غضبوا، أو حتى لعنوا وكفّروا وأهدروا الدماء، كما يفعل أى شيطان من شياطين الإنس.. كل المفكرين يؤمنون بالتراث، وخلافهم ليس معه، فمن غير المنطقى أن يتعاملوا فى يسر مع «ألف ليلة وليلة»، و«كليلة ودمنة»، ثم يرفضون التعامل مع «البخارى» و«مسلم» وغيرهما. مشكلة المفكرين ليست مع التراث، وإنما مع من يقدسون التراث، ويريدوننا أن نسجد له، مهما كانت قناعتنا وتساؤلاتنا.. المشكلة مع رفع أصحاب كتب التراث إلى مصاف الآلهة، ورفض احتمال وجود أية أخطاء فى ما كتبوه، وكأن ساحة العلم طريق مسدود، ينتهى عند كتب التراث، على عكس كل علوم الكون، التى تتطوّر وتتحسّن، وتتماشى مع تطوّرات العصر.. أى مفكّر فى الوجود لن يخضع لهذا، ولن يسجد لكتاب وضعه بشرى مثله، لأن هذا يبدو له شركا بالواحد الأحد الحق الصمد العزيز القهار، الذى ليس كمثله شىء، والمعصوم معصومية مطلقة. مشكلة المفكرين ليست مع التراث، ولكنها معكم أنتم يا من تقدّسون التراث على حساب العقل، فى زمن يتسيّد فيه العقل، ولا سبيل للوصول إلى الروح دون المرور عليه.. مشكلتكم إذن أيها الشيوخ الأفاضل أنكم متحمّسون أكثر من اللازم، وأن ما تدرسونه كله تراث.. وهذا حقكم.. قدسوا البشر أو اعبدوهم لو أردتم، ولكن لا تحاولوا إجبارنا على تقديسهم وعبادتهم مثلما تفعلون.. ألغوا العقل، واعتمدوا السمع والطاعة.. اعموا العقول والقلوب.. هدّدوا كل من يختلف معكم بالتكفير والقضايا وإهدار الدم، كما لو كنتم تنظيما إجراميا، لا يؤمن إلا بالقوة لمواجهة معارضيه، ولستم جهة علمية دينية تتسم بالعلم والمعرفة وسعة الصدر والقدرة على مقارعة الحجة بالحجة، وتؤمن برب الحكمة والموعظة الحسنة. مشكلتكم أنكم أكثر من يرى الدين ضعيفا، بدليل أنه عندما اختلف معكم رجل واحد تجيّشتم وتشنّجتم كلكم لمحاربته، وكأنكم ترون أنه قادر على هدم دين له رب يحميه.. صرتم بجلالة قدركم كلكم ترفعون السيوف فى وجه من يحاول التفكير، وكأن الدين دين جهل ولم توجّه كثير من آياته لأولى الألباب ولقوم يتفكّرون!!! مشكلتكم أيها الأفاضل هو أنكم تريدوننا جهلاء خاضعين خانعين، وكأن هذا هو الأسلوب الأمثل لكى نعدّ ما استطعنا من قوة ومن رباط الخيل.. المطلوب منا أن نكون جهلاء خانعين، ثم نمتلك القوة والفكر لتنفيذ الأمر الإلهى بإعداد ما نستطيع من قوة ورباط خيل!!! ألا يبدو هذا متعارضا؟ أم أن تقديسكم للتراث قد أغلق عقولكم أيضا وأطاح بكل منطق لديكم؟!... هذه هى مشكلتكم معنا أيها الأفاضل.. ومشكلتنا معكم.. لا مع التراث.. أبدًا.