كتب - محمد الشماع ومحمد مصباح: عبد الرحمن الأبنودى كان ولا يزال ضمير هذا الشعب بإحباطاته وانكساراته، وأفراحه أيضًا. كان الأبنودى صوتًا لمَن لا صوت له. واجه السلطة بلسان الشعب. كان فيلسوفًا ينقل ما فى الضمير الشعبى الجمعى إلى السطح. نقل أوجاع الناس وآلامهم إلى أهل السلطة، سواء كان معارضًا أو مؤيدًا أو مؤمنًا بحذر ووعى. خلاف مع جاهين على حب عبد الناصر الشاعر الكبير صلاح جاهين هو مَن قدَّم الأبنودى إلى الحياة الثقافية، ضمن عدد كبير من الشعراء، كتب عنهم جاهين فى مجلة «صباح الخير» ضمن باب بعنوان «شاعر جديد يعجبنى». تقييم فترة حكم عبد الناصر نهاية فترة الستينيات قسّمت المثقفين والسياسيين إلى جناحَين، وكان الأبنودى وجاهين ممن قسّمتهم السياسة، على الرغم من أن جاهين والأبنودى ينتميان إلى الحركة اليسارية المصرية. وُجد فى الحركة الشيوعية المصرية مَن يرى أن العلاقة مع عبد الناصر لا بد أن تكون «تحالفًا مع صراع مع إبراز وجه الصراع»، وكان منهم الأبنودى وسيد حجاب، ومن قبلهما فؤاد حداد الذى سجن فى عام 1959، كان هذا الجناح يشدّد على وجوب محاسبة عبد الناصر على جرائمه الخاصة بالحريات تحديدًا. أما الفريق الآخر، والذى انتمى إليه جاهين، فكان ينطلق من فكرة أن العلاقة مع عبد الناصر لا بد أن تكون «تحالفًا مع صراع مع إبراز وجه التحالف»، حيث كان يحبّذ هذا الجناح التغاضى عن تجاوزات السلطة بحق الشعب من أجل هدف أسمى. الاعتقال فى سجون الثورة الأبنودى كان من أشد المؤمنين بانحيازات ثورة يوليو 52. آمن بتوجّهاتها القومية العروبية، فكان صوتًا صادحًا لها. اتّحد مع صوت الغالبية من الشعب المصرى فى مسارها، ورغم ذلك زار الأبنودى سجون نظام يوليو. هو يقول عن تجربة السجن «عند اعتقالنا لم توجّه إلينا تهمة، وفترة الاعتقال كانت جميلة، ولو كنا نعلم بحلاوتها لطلبنا الاعتقال بأنفسنا». ويُحكى أن الخال وبعد قيام الثورة بعامَين، فى 1954، واجهت قنا سيولاً دمَّرت المدينة، حتى إن التلاميذ كانوا يذهبون إلى المدارس بقوارب صنعوها من جذوع النخيل، فذهب مجلس قيادة الثورة بأكمله إلى المدينة لمواساة أهلها. كان عبد الرحمن يقف هناك فى أثناء مرورهم، ثم سأل زميله جمال الأنصارى «مش الراجل اللى هناك ده شبه جمال عبد الناصر اللى فى الصورة؟»، فقال له «باينُّه هوّ!»، فذهبوا إليه، ووقف الأبنودى أمام عبد الناصر وقال له «أنت جمال عبد الناصر؟، فرد «أيوه»، قال عبد الرحمن ببراءة «ممكن أسلّم عليك؟»، فسلّم عليه ونظر إليه نظرة ظلَّت محفورة فى ذهن الخال. عبد الناصر بالنسبة إليه زعيم ملهم، كتب فيه قصائد كثيرة، لكنه يرى أن الأزمة كانت تكمن فيمن أحاطوا به. هذه النظرة بالمناسبة كانت تقريبًا نفس نظرة كثير من المبدعين، خصوصًا فى علاقتهم بنظام يوليو وعبد الناصر، هو يقول «لا نستطيع أن ننكر دور الزعيم عبد الناصر. أما عن المآخذ عليه، فأنا أتخيّل نفسى رئيس دولة ومن حولى 5000 من الشخصيات الأمناء الذين أثق فيهم ويقدمون لى التقارير، هل أنزل بنفسى للتحقُّق من صحة هذه التقارير؟ عندما يصبح هؤلاء الأمناء ليسوا أمناء، فهم خائنون». نظرة شاعرنا الكبير إلى عبد الناصر مختلفة تمامًا، فهو يقول «لا ننسى أن عبد الناصر هو الذى قال (ارفع رأسك يا أخى. انتهى عهد الاستعباد)». كان الفقراء وقت عبد الناصر يأكلون ويشربون وينامون ويحلمون، حتى إن الناس حين كان يموت أبناؤهم فى الحروب يخفّف الرئيس من حزنهم. عبد الناصر قام ببناء السد العالى، ولولا السد لحدثت كوارث مثلما حدث فى السودان. عبد الناصر هو الذى بنى المصانع والقطاع العام، لكن كل ما بناه باعوه الآن. يا مَن تهاجمون عبد الناصر قولوا لنا: ماذا فعلتم؟ لولا عبد الناصر ما استطاع الفقراء من أمثالى أن يتعلَّموا. للأبنودى واقعة طريفة خاصة بالحريات فى عهد عبد الناصر، حيث يؤكّد «نحن لم نخرج من السجن إلا فى أثناء زيارة وفد برئاسة المفكرة الفرنسية سيمون دى بفوار. فقد رفض الوفد زيارة بلد به أدباء محبوسون، فوعدهم عبد الناصر بأن يفرج عن كل الأدباء، يوم وصولهم إلى مصر، وبالفعل خرجنا». إحنا ولاد الكلب الشعب بدأ عصر السادات بقرارات اعتبرها مبدعو مصر مهمة، لا سيما تخلّصه من مراكز قوى عهد عبد الناصر التى كانت «بعبعهم» الحقيقى. سياسيًّا، وفى أول عهد السادات، لم تكن هناك أزمة حقيقية فى موقف الأبنودى من السادات. هو يروى أنه وقت وقوع حرب أكتوبر 73 كان فى إنجلترا بصحبة الأديب السودانى الطيب صالح، وعندما عرفا بالحرب، وحاولا العودة إلى مصر عن طريق ليبيا، لم تفلح المحاولة، فحُكم عليه أن يظل فى بلاد الثلج والضباب، وأن يشاهد الحرب من وجهة نظر الأعداء. كان يدرك أن مصر انتصرت رغم محاولات الإعلام الإنجليزى تصوير عكس ذلك. لكن بعد انتهاء الحرب بالانتصار ومرور الأيام، بدأت جيهان السادات تظهر فى الصورة، وتتصدَّر المشهد بزياراتها لجرحى الحرب، فى هذا التوقيت اتصل المخرج الراحل محمد سالم، بالأبنودى، وأبلغه أن حرم الرئيس تريد منه العودة إلى القاهرة، من أجل أن يقوم بإلقاء قصائده فى احتفالات النصر، لكن الأبنودى اعتذر. لم يكن الأبنودى من المثقفين الذين نجح نظام السادات فى اجتذابهم للموافقة على اتفاقية «كامب ديفيد» مع الإسرائيليين، حيث كان له موقف مضاد من الاتفاقية وأصحابها. توترت العلاقة أكثر وأكثر بين السادات والأبنودى، حتى إنه فى فبراير 81 ألقى فى عيد الطلاب قصيدته «المد والجزر» التى تنبَّأ فيها بمقتل السادات، وفى نفس التوقيت كتب قصيدته «لا شك أنك مجنون»، وصارت قصائد الأبنودى بمثابة المدفعية الثقيلة التى تواجه نظام السادات. وعلى الرغم من ذلك كله، فإن قائمة اعتقالات سبتمبر خلت من اسمه، لكنه يقول عن هذه الواقعة «أنا كنت أول اسم، لكن السادات شطبنى بيده، قال لهم ده لأ، ده له تصرف تانى خالص!». فجَّرت قصيدته الملهمة «أحزان عادية» أزمة كبيرة بينه وبين نظام السادات، ففيها يروى تجربة السجن، وفيها قال الجمل الشهيرة التى يستخدمها الثوار فى مصر «إحنا الصوت ساعة ما تحب الدنيا سكوت»، و«إحنا ولاد الكلب الشعب». ارتاح الأبنودى بعد رحيل السادات، لكنه اعتذر عن الشماتة فى اغتياله، لأنه فى الأساس ضد فكرة الاغتيال. رحل الأبنودى.. فهل رحلت «دولة العواجيز»؟ كثير من أوبريتات احتفالات عهد مبارك كتبها الأبنودى. العلاقة بين الرجلَين كانت عادية وفاترة غير مشحونة. الأحداث كلها كانت كذلك. ربما كان الخال ضمن كثير من الكتاب الذين حذروا النظام من الثورة، لكن النظام وقتها كان قد وصل فى غيّه وغروره إلى أقصى المراحل، فلم يكن يسمع إلا نفسه وإلا ما يقوله أمين التنظيم أحمد عز. قامت الثورة، وانتشرت قصيدة الأبنودى «الميدان» فى ميدان التحرير بشكل لم تسبقه إليه أى قصيدة. كان الثوار «الذين هاجمهم الأبنودى فى ما بعد» يحفظونها ويرتلونها. كانت تلهبهم الحماسة والقوة، وزادتهم إصرارًا، خصوصًا فى مقطع «آن الأوان ترحلى يا دولة العواجيز»، مثلما كانت «مربعاته» سببًا فى إيقاظ روح الانتماء المصرية ضد الإخوان. أعلم أن الأبنودى كان يطمئن ويسعد جدًّا عندما يخبره أحدهم بأن قصيدته تتلى فى الميدان فى هذا التو وهذه اللحظة. لكن الأمر تحوَّل تمامًا بعد 30 يونيو، عندما أظهر إعجابه الشديد بالمرشح الرئاسى وقتها عبد الفتاح السيسى، حتى إنه ظل داعمًا له حتى وافته المنية. قصة عشق الخال للمانجو رغم أن الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودى كان من مواليد محافظة قنا، فإنه لم يعش فيها طويلاً، إذ انتقل إلى القاهرة وهو فى العشرين من عمره، وقضى بها نحو عشرين عامًا كاملة، حتى تعرض لوعكة صحية، نصحه الأطباء على أثرها أن يعيش فى جو نقى بعيد عن الزحام والتلوث الموجود بالقاهرة، فاختار محافظة الإسماعيلية وهو فى الأربعين من عمره ليعيش فيها ما تبقى له فى الحياة، فاشترى بيتًا كبيرًا ومزرعة فى قرية الضبعية، واستقر هناك حتى وافته المنية عن عمر يناهز 76 عامًا. فى الإسماعيلية، عاش الأبنودى وكوّن صداقات كبيرة مع عدد من المثقفين بالمحافظة وأهالى المنطقة، لدرجة أنه أوصى أن يُدفن على أرضها، واشترى قبرًا فى مدخل المنطقة قبل وفاته ب10 سنوات يبعد عن منزله بنصف كيلو، ووفقًا لأهل القرية، فإن الخال كان دائم التردد على ذلك القبر كل عدة أشهر، كما أنه كان حريصًا على ترميمه بشكل دورى. الخال، كانت تربطه علاقة قوية بأهل قرية الضبعية الذين عبروا عن حزنهم الشديد لرحيله، مؤكدين أنه كان ظهرا لهم، وكان سببا فى الخير للقرية من خلال إجباره المسؤولين على رصف الطرق لهم، وتوصيل المرافق للقرية، مؤكدين أن رحيل الخال يعنى إهمال القرية. وبحسب أحد المقربين من الخال فإنه قال لهم قبل رحيله إنه يتمنى أن يزور قناةالسويس الجديدة ليعطى العاملين مزيدا من الحماس فى أثناء عملهم على حفر القناة، بل وكان يحضّر أيضًا لعمل فنى يقوم بتقديمه الفنان محمد منير، فى أثناء مراسم افتتاح قناةالسويس الجديدة، فى حضور رؤساء وملوك العالم، موضحًا أنه عاصر تدشين السد العالى، وتمنى أن يحضر افتتاح القناة الجديدة. الخال كان يعشق فاكهة المانجو التى تشتهر بها محافظة الإسماعيلية، وكان حريصًا على زراعتها داخل المزرعة الخاصة به، بل إنه كان يقسم منزله إلى جزأين، واحد تحت اسم «الديوان»، وآخر تحت اسم «المندرة»، بخلاف المنزل المتواضع ذى الطابع الريفى الذى كان يعيش فيه الخال، كما أنه كان يعيش معظم الوقت وحيدًا داخل مزرعته، إلا أن الدولة اهتمت به فى السنوات الأخيرة. بعد الرحيل.. أول يوم وحده أول يوم للخال داخل قبره كان وحيدًا، فلم يحرص أحد على زيارة القبر، بينما قامت القوات المسلحة بالتنسيق مع محافظة الإسماعيلية، وأقامت عزاء بجوار مسجد الدوحة بوسط محافظة الإسماعيلية، إلا أنه مع صباح يوم وفاة الخال ظل العزاء خاليًا من الحضور، وقامت عائلة الأبنودى بوضع سرادق عزاء منفصل بمقر منزل العائلة بقرية أبو عطوة، وقام عدد كبير من أهالى مدينة الإسماعيلية بالتوجه إلى العزاء بمنزل العائلة. مصادر مقربة من عائلة الأبنودى أكدت أنه نشب خلاف عائلى بين أقاربه وزوجته الإعلامية نهال كمال حول اختيار مكان تلقى العزاء فى الفقيد، كما أكد أحد حراس مقبرة الأبنودى بمنطقة جبل مريم أن الخال كان يزور المقبرة بشكل دائم عند مروره فى الطريق المقابل لها، وكان الخال دائمًا يقول للمقبرة: «لسه دورى ما جاش»، وكان الحارس يستغرب حينما يجد الأبنودى ينظر إلى المقبرة صامتًا لوقت كبير. الإعلامية نهال كمال، زوجة الشاعر الراحل، قالت فى أثناء مراسم الدفن إن الخال أوصى بأن يُدفن بجبل مريم، وأن يقوم على غُسله محمود الخفير، الذى كان يقوم على خدمته طوال فترة وجوده بالإسماعيلية ومرضه، وأن يقام له عزاء بمنزله بقرية الضبعية، وأن تأخذ ابنتاه آية ونور عزاءه. أما الفريق مهاب مميش، رئيس هيئة قناةالسويس، فقال إن آخر اتصال له مع الخال دعاه خلاله لزيارة قناةالسويس الجديدة، والاطلاع على تفاصيل المشروع عن قرب، بصفته أحد الرموز المصرية الوطنية المنشغلة بالمصلحة الوطنية. مميش أضاف أن الأبنودى تمنى أن يقوم بالسلامة من فراش المرض حتى يتسنى له تلبية الدعوة وزيارة مشروع قناةالسويس الجديدة. وقال اللواء يس طاهر، محافظ الإسماعيلية، إن لقاءه الوحيد بالشاعر الكبير الراحل عبد الرحمن الأبنودى، بمنزله، قبل أيام قليلة من وفاته، ترك لديه أثرا كبيرا، خصوصا بعدما استشعر كأنه رفيق عمر لكرم ضيافته. وأوضح المحافظ أن الأبنودى أوصاه خيرا بالإسماعيلية وشعبها، خصوصا أنه محافظ جديد، مؤكدا له أن الإسمعلاوية لم يغفروا إهمال مسؤول فى حق باريس الصغرى، مشيرا إلى تناولهم الحديث عن مشروع حفر قناةالسويس، وأن أمنية الشاعر التى لم تتحق هى كتابة كلمات أوبرت الافتتاح وحضور مراسمه. يس أكد أن الشاعر رمز كبير لمصر كلها، كما أنه شارك المواطن المصرى البسيط أحزانه قبل أفراحه بطريقة سهلة، خففت من أوجاعه، لافتا إلى التنسيق مع الجهات المعنية بعد الانتهاء من مراسم العزاء، لتخليد ذكرى الأبنودى، بطريقة تناسب قدره، سيتم الإعلان عنها فور الانتهاء من المناقشات. أهالى باريس الصغرى فى وداع الخال تجمع العشرات من أهالى الإسماعيلية أمام منزل الخال، وفتحوا حديثًا مطولاً عن الذكريات التى جمعتهم به، أحدهم كان يتحدث عن تواضعه، وعدم تكلفه، وآخر يحكى عن الأسلوب الذى كان يميزه، والذى جعله قريبا فى قلوب البسطاء والمثقفين. يذكر أن جنازة الراحل شهدت حضور الفنان على الحجار الذى حرص على الجلوس مع عمال المنزل وأصدقاء الخال، وظهرت علامات الحزن على وجه الحجار لكنه كان يحاول قدر المستطاع تهدئة أسرة الأبنودى، فى الوقت الذى تجمعت فيه أعداد من سيارات الشرطة العسكرية، وكان جثمان الأبنودى قد وصل مساء أول من أمس (الثلاثاء)، وبعد أقل من نصف ساعة تحرك جثمان الأبنودى إلى مسجد هيئة قناةالسويس وسط تأمين مشترك من أفراد تابعين للشرطة والقوات المسلحة، وصلى الآلاف من الأهالى على جثمان الخال، وظهرت حالة من الحزن الشديد على كل المشاركين، خصوصا الفنان محمد منير الذى لم يتمالك نفسه ودخل فى بكاء شديد، وأحاطه عدد كبير من أفراد الأمن، حيث انطلقت الجنازة بعد ذلك لدفن الجثمان فى مقابر جبل مريم. وكان من أبرز المشاركين فى الجنازة اللواء يس طاهر محافظة الإسماعيلية، واللواء منتصر أبو زيد مدير أمن الإسماعيلية، واللواء محمد جاد مدير مباحث الإسماعيلية، وعصام الأمير رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون.