ضرب من المستحيل على القلب القارئ قراءة كونية كاشفة عابدة، لكتاب التدوين «القرآن الكريم» ومعه كتاب التكوين «الحياة» أن يخطر بباله ولو لحظة واحدة أن الله تعالى يذم الدنيا فى سياق الآية رقم «20» من سورة الحديد: «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ»، إن هذه الآية الكريمة تتجلى بأدقّ توصيف لحركة الحياة، بما تحمله من دعوة لكل إنسان للإقبال على الدنيا، بكل الطاقات والملكات والإمكانيات والقدرات. فالدنيا «لعب» بمعنى أنها لعبة لكل إنسان، ولا بد من أن يكون له دور يلعبه فيها، وهى لا تُلعب إلا مرة واحدة، فلا بد أن أحرص على أن ألعب دورى فيها بكل إتقان. والدنيا «لهو»، واللهو إشارة إلى حركية الحياة، ولكى ألعب دورى بجدية علىّ أن أنتقل من حال إلى حال فى أطوار الدنيا، وأن أتحرك من وجه إلى وجه من مجالات الحياة، وكلما زادت بنود اللهو ازدادت حركية الحياة وعنفوانها، فالحزن يلهى عن الفرح، والخوف يلهى عن الأمان، والحركة تلهى عن السكون، والصحو يلهى عن النوم، والخروج يلهى عن المكوث، وهكذا، والعكس صحيح. والدنيا «زينة وتفاخر»، ومَن منا لا يحبّ أن يتزين بكل جديد وجميل، ليتحدّث بنعمة ربه، ومَن منا لا يود أن يقتنى الأحدث من كل شىء، والتفاخر هنا لا يكون إلا بالإنتاج والاستهلاك كضرورة من ضروريات الحياة، للتمكين من صيرورتها وسيرورتها، والدنيا «تكاثر بالأموال والأولاد»، وهذه حقيقة قرآنية وإنسانية وحياتية، مَن مِنا لا يحبّ الإنجاب وجمع الثروات! وهذان هما القاسم المشترك الأعظم بين جميع الناس، لولا المال لما كانت هناك أمانة وغش وسرقة وظلم وزور، ولولا الأولاد لما كانت هناك أسرة وزواج وعقود ومهور ونفقات وميراث، وهل الحياة تكون حياة من دون مال وتفاخر وتكاثر وأولاد وزينة ولعب ولهو؟ إنها -لو تصورنا ذلك وهذا عين المستحيل- لكانت أقسى من صحراء جرداء، فما هى بالحياة حيث الحيوية والحركية، والدموية والديمومة، والطلاقة والانطلاق، والاحتراق والاختراق. لا ينبغى أن نضيّق على أنفسنا، ولا أن نستمر فى هذا الضيق والتضييق، والإغلاق والاستغلاق، وندّعى الزهد وندعو إليه، فإن هذه الفكرة لها جذورها فى التاريخ، لشغل الناس عن الأمور الأهم فى الحياة بساستها وسياستها واقتصادها واجتماعياتها، وخفاياها وأسرارها منذ «الطبعة الأموية» للفكر الإسلامى، وبعدها «الطبعة العباسية» ثم «الطبعة العثمانية» التى ولدت الرجل المريض، والذى لا يزال قابعا فى تكويننا إلا قليلًا! نعم إن «كل شىء هالك إلا وجهه»، وإنى كإنسان كونى مسلما، لدىّ ما هو أبعد من الحياة، وما وراء الحياة الدنيا، وفى هذا الزمن الصعب، أشعر بمدى عظمة القول الإلهى «وتلك الأيام نداولها بين الناس». وتحولات العصر الحديث قد تداولتها أربعة معسكرات فكرية: الشيوعية، أو المادية الجدلية فى (روسيا). والوجودية (فى فرنسا). والتحليلية (فى بريطانيا). والبراجماتية (فى أمريكا)، كل هذه المعسكرات تنتهى بانتهاء الحياة الدنيا، هذا إن افترضنا حسن النية، وتوهمنا «جدلا» أنها طويلة العمر، وقد أثبتت الأيام والتجارب والمغامرات والمقامرات أنها مؤقتة، وقد أوهمت الناس بأنها «الفردوس»، فإذا هى «جحيم» تلك المعسكرات تحطمت وتناثرت، والبقية تترنح وتتململ وتتملص من مصيرها المنتظر وتتقلص فى ذاتها، لأنها تحمل أسباب ذهابها فى إهابها، وفنائها فى استماتة بقائها. نعم إن «كل شىء هالك إلا وجهه» أين الإمبراطوريات التى تعاقبت على البشرية؟ أين إمبراطورية القرن الثامن عشر «الفرنسية»؟ وأين إمبراطورية القرن التاسع عشر «البريطانية التى غابت عنها الشمس وغابت هى أيضا»؟ ومضى القرن العشرون وقد اختفت منه الإمبراطورية السوفييتية ما بين غمضة عين وانتباهتها! وبقيت الأمريكية والتى يقول الباحثون والمحللون الأمريكيون أنفسهم إنها هى التى كانت مرشحة للانهيار، والبقية تأتى، ومع ذلك فها هى الدنيا شروق وغروب ظهور وأفول نور ونار موت وحياة، وسبحان الحى الذى لا يموت.