■ كيف كان حنينك إلى وطنك؟ - اسكت! إن أمريكا بكل ما فيها من عظمة وثراء وعجائب لم تتمكن من إزالة وحشتى لوطنى، تلك الوحشة التى لا يشعر بها إلا الذى سافر إلى الخارج.. لقد أوحشتنى مصر بشكل لا يمكن أن تتصوره.. أوحشنى غبارها.. وشوارعها الحافلة بالمطبات.. ودور السينما فيها.. وأوحشنى معارفى.. وأصدقائى.. ورغم ذلك فإن الوحشة الكبرى التى شعرت بها، والتى طغت على كل وحشة.. هى -رغيف العيش- المصرى المخلوط.. لقد كان أول شىء تذوقته بنهم وشغف.. حتى لقد أكلت رغيفا -حاف- بلا أدام.. أتعرف لماذا؟ ■ منك نستفيد! - لأنى أستنشق فيه رائحة تكيّفنى ، هى رائحة الغلّة التى تنبتها أرض مصر الطيبة. هذا ليس مقتطفًا من سيناريو سينمائى وطنى، أو خطبة سياسية عاطفية لامرأة كابدت الحنين إلى بلادها، بل هذا جزء من حوار صحفى، أجراه الكاتب والقاص وليم باسيلى فى العدد الصادر من مجلة الكواكب بتاريخ 10 مارس 1953، مع الفنانة راقية إبراهيم، وهى يهودية مصرية، وكانت عائدة من أمريكا، بعد رحلة علاج صعبة كما نوّهت المجلة فى صدر الحوار. وجاء الحوار مخدوما بطريقة ملحوظة، وتخللته أربع صور صغيرة فى أثناء إجرائه، وصورة كبيرة، وهى تضع يدها بطريقة لافتة على رأسها، وتنظر نظرة شغف إلى المستقبل، وجاء التعليق على هذه الصورة يقول: نظرة ملؤها التفاؤل.. ترنو بها راقية إلى غد السينما المصرية ، كما لم تخل الصور الأخرى من تعليقات مفعمة بتجميل الفنانة راقية إبراهيم، وإظهارها فى أفضل صورها المعتدلة العاقلة الحانية إلى مصر. هذا الحوار المشحون بالعاطفة والحنين والحب لمصر دوما، خصوصا فى عهدها الجديد بقيادة اللواء محمد نجيب، يتناقض تماما مع كل الأخبار والحكايات التى تداولتها الصحف والمجلات والنقاد فى ما بعد، خصوصا القضية الغريبة المتعلقة بمقتل عالمة الذرّة الفذة الدكتورة سميرة موسى، والصحفيون والنقاد يتناولون قضية مشاركة راقية إبراهيم لسميرة موسى بيسر وسهولة، كأنهم يتناولون قصة عادية ومؤكدة ومحسومة، وشهودها يمتلكون ناصية العدالة بقوة، وفى الحقيقة لا توجد أدلة على مشاركة راقية إبراهيم فى عملية مقتل سميرة موسى، سوى حكايات حفيدتها التى كتبت هذا الكلام -كما يشاع- فى بضع أوراق، أى أنه حديث غير قانونى، ولم تحقق فيه أى جهة، خصوصا أن أمر اغتيال سميرة موسى أكثر تعقيدًا من أن يأخذ بهذه السهولة، بعدما اختفى السائق الهندى الذى كان يقود السيارة التى كانت تركبها موسى فى أمريكا إلى الأبد، والذى كان يحمل اسما غير اسمه الحقيقى، وأن الزيارة التى كانت موسى مدعوة إليها مزيفة وغير حقيقية. عشرات الأخبار والحكايات والمعلومات التى تقول إن مقتل سميرة موسى عام 1952 كان معقدا للغاية، ولم يكن فى حاجة إلى شخصية معروفة مثل راقية إبراهيم، وهذا ليس تبريئا لها، بقدر ما أننا نحتاج إلى قراءات دقيقة وصحيحة للتاريخ، بعيدا عن تناول وتداول بعض الحكايات غير الموثقة، والتعامل معها على اعتبار أنها وثائق، وبناء حقائق تأخذ شكلا ثابتا، ويتم بناء الصورة على هذه الحكايات بشكل لا يمت إلى الحقيقة بصلة، للدرجة التى يتم تشويه كل ما يتعلق بالصورة المزعومة، فى مواجهة التاريخ الحقيقى، وهذا ما تم مع راقية إبراهيم، والتى قيل عنها -فى ما بعد- بأنها محدودة الموهبة، وبأن إسهامها قليل فى السينما المصرية، رغم أن بطولتها لفيلم زينب ، عام 1952، كتب عنه كثيرون -آنذاك- مادحين دورها والأداء الممتاز الذى قامت به فى ذلك الفيلم، هذا عدا أفلامها الأخرى. حديثى هذا لا يؤكد شيئًا، ولا يملك أن ينفى أشياء، بل أحاول أن أسعى نحو صورة تاريخية موثقة، وشبه مؤكدة عن تاريخنا المعاصر، والذى ما زلنا نملك أوراقه ووثائقه، وما زال بعض شاهديه يعيشون بيننا. وربما تكون الأحداث التى لاحقت اليهود المصريين فى تلك المرحلة البعيدة، هى المسؤولة عن تلك الشائعات التى راجت بكثرة بعد نكبة 1948، وبعد قيام ثورة يوليو 1952، وبعد اكتشاف دور المنظمات الصهيونية فى تجنيد بعض اليهود المصريين لخدمة دولة إسرائيل المأمولة، وكانت عصابات الأرجون بقيادة الضابط مناحم بيجين تعمل على قدم وساق فى هذه المساحة الشائكة، والغامضة، والتى كانت مصر ويهودها ومنتدياتها ومنظماتها السياسية وشركاتها وقادتها فى قلب هذا الاهتمام. وربما تعرضت بعض الشخصيات اليهودية لمحاولات إيذاء من السلطات المصرية فى ذلك الوقت، السلطات المتمثلة فى الشرطة وبعض قيادات الجيش، ومن يقرأ الرواية الاعترافية المهمة بيرة فى نادى البلياردو ، والتى نقلتها إلى العربية المترجمة والأديبة هناء نصير منذ سنوات قليلة، هذه الرواية كتبها أحد الفارين من مصر فى خمسينيات القرن الماضى، وهو الكاتب وجيه غالى الذى كان يحب إدنا اليهودية ، سيدرك مدى المبالغة -فى القسوة- التى عومل بها اليهود المصريون فى تلك الفترة، وأجبرتهم على الفرار من هذا الجحيم الذى نصب لهم فجأة من جراء كل الأطراف الصهيونية والمصرية على حد السواء، ومن يتصفح الحكايات التى لاحقت ليلى مراد نفسها، سيكتشف أنها كانت معرضة لذات المصير الذى لاحق آخرين، لولا أنها اعتنقت الإسلام وأشهرته، ولم يصدق الناس ذلك إلا بعد نشر هذا الإشهار فى الصحف. ورغم أن كثيرين تناولوا حكاية اليهود فى مصر مثل عرفة عبده على، ومحمد أبو الغار، فإنها ما زالت حكاية مفتوحة وقابلة للتشكيك فى بعض أجزاء صورتها المزعومة والمهزوزة، لذلك نريد مزيدًا من كشف الأوراق المستبعدة حتى نرى الصورة جيدا وبوضوح.